جئتك يا سيدى الرئيس فى بيتك، بيت الضابط فى القوات المسلحة قبل أن يكون بيت رئيس الجمهورية. جئتك كابن يقول لأبيه فى بساطة وحميمية: أرجوك لا تترشح المرة القادمة، وأفسح الطريق للبرادعى كى يدير مصر كما تُدار الدول الحديثة، ويأخذ بأيدينا إلى الحداثة والكرامة واحترام القانون». هكذا رحت أتمتم بصوت منخفض، والمارة ينظرون لى فى دهشة، وأنا فى طريقى إلى القصر الجمهورى لمقابلة الرئيس. وداعا للسلبية، باى باى للخنوع. أيمن القديم انتهى. أيمن الذى كان سلبيا ويؤثر العزلة ويبتعد عن وجع الدماغ ذهب إلى الأبد، وحل محله رجل جديد. زعيم وطنى من الطراز الأول. خطيب مُفوَّه تتزاحم الجماهير كى ترنو إليه، تقع تحت سيطرته، تدور فى فلكه، تُردد خطبه التى تلهمها بالأمل فى التغيير. نعم أنتم تسيرون الآن بجانب رجل يصنع التاريخ. كانت الدموع تتدافع فى عينى، وأنا أقترب من أسوار القصر. أعرف أنه سيسمعنى. سأقول له: «شكرا. لقد أديت واجبك منذ أن كنت طفلا فى كفر مصيلحة، تلميذا فى مدرسة المساعى الحميدة. أعرف أنك تعبت، كافحت، ركبت قطارات الدرجة الثالثة، التزمت بتقاليد العسكرية الصارمة، جاهدت فى الخنادق والثغور. رمال سيناء تعرفك، سماء مصر تعرفك. بعدها تسلمت السلطة التى لم تسع إليها، عملت بدأب وجدية، حاولت. فى الولايتين الأولى والثانية كان أداؤك ممتازا واستطعت العبور بسفينة مصر بعيدا عن الأنواء الثائرة والأمواج العالية، بعدها أدركك ضعفك البشرى، كبر الأولاد. طال العهد حتى نسيت العهد، وتخثرت الدماء القديمة فى العروق. وأنت كما تعلم، لا تنقصك الحكمة: الطبيعة تجدد نفسها بنفسها، والخلايا تموت وتحيا باستمرار. لذلك أرجوك أن تمنحنا الفرصة كى نختار. أنت لا تعلم كم يعانى جموع الشعب، ربما تظن أنك تعلم، أو ترى الصورة أوسع وأشمل، تشاهد الخريطة بعين الطائر، من نافذة طائرة، وأنت طيار كفء قبل أن تكون رئيسا ومسؤولا عن البلاد. لكن الذين يركبون الطائرة يشاهدون الصورة الإجمالية ولا يشاهدون التفاصيل الدقيقة لعذاب الكائنات. شىء لطالما لاحظته كلما ركبتُ الطائرة: تلوح القاهرة من نافذة الطائرة بحرا من الأنوار. يقول سكان الكواكب البعيدة فى حسد: ما أسعد سكان القاهرة!. لكنهم حين يهبطون إلى الأرض، ويشاهدون البؤس الذى نعيش فيه، يركبون صواريخهم على الفور، ويقولون فى هلع: ما أتعس سكان القاهرة، وما أبأس ما يعيشون فيه! آه لو تعرف شجون الوطن، آه لو تشعر بما نحن فيه، بعمرنا الذى فر وضاع، بفقر الفقراء، بضعف الضعفاء، بأنين مرضى يتسولون علاجهم على أرصفة المستشفيات، بهؤلاء الذين أنفقوا أعمارهم فى مهانة وشقاء، جاءوا الحياة وغادروا الحياة ولم يظفروا بالكرامة لساعة واحدة، ومنتهى آمالهم قطعة لحم فى الأعياد. يقفون فى مقام الذل منتظرين أريحية من يقف فى مقام العطاء. وفجأة انتبهت من خواطرى على جندى يسألنى فى صرامة عما أريد، فقلت له فى قوة، بصوت عال مجلجل: - جئت لأقابل السيد الرئيس. ترى ما الذى حدث بعدها؟ هل قابلته؟ ماذا قلت له وبماذا أجابنى؟ وهل أكتب الآن من سجن طُرة أم من البيت، هذه أشياء ستعرفونها غدا إن شاء الله.