باريس توزع متاحفها على كل فرنسا تحت شعار القرن ال21: «يكون ثقافيا لكل المناطق أو لا يكون».. عنوان لتحقيق رائع قرأته فى جريدة «الشرق الأوسط» أمس الأول.. يحكى عن خطة فرنسية واسعة للاّمركزية الثقافية.. رصدت لها الحكومة الفرنسية موازنات ضخمة، لكن الأهم كما قالت كاتبة التحقيق «إصرار لا يلين»، فالهدف اقتصادى بالدرجة الأولى. ماذا يعنى كل ذلك؟! يعنى ببساطة أن الحكومة الفرنسية قررت ألا تكون باريس هى فقط عاصمة الثقافة والمتاحف الفرنسية.. فالتقارير تقول إن أكبر 5 متاحف فرنسية، فى مقدمتها اللوفر وجورج بومبيدو، تستقطب 75% من مجموع الزيارات.. فيما تنتشر فى فرنسا أكثر من 1211 متحفا بلا زوار.. ومع الأزمة الاقتصادية والركود الاقتصادى خاصة فى المدن الصغيرة، قررت الحكومة استخدام الثقافة كأحد عناصر الإنعاش.. وكان شعار وزير الثقافة فريدريك ميتران أن الثقافة فى القرن ال21 ستكون فى كل الأقاليم أو لا تكون!! بهذا الإصرار وهذه الرؤية، بدأت وزارة الثقافة الفرنسية تنظر إلى كل مدنها الصغيرة.. فها هى مثلا مدينة صغيرة جدا اسمها «متز» تعانى بطالة مرتفعة وركوداً اقتصادياً، يفتتح بها متحف صغير، وتعرض بها رائعة «ماتيس»: «تعاسة الملك» فيأتيها الناس من كل القرى والمدن المجاورة.. تنتعش الأحوال، وتبدأ الفنادق فى العمل والقطارات فى التحرك من متز إلى باريس، وليس فى اتجاه واحد فقط. ويتابع التحقيق ليذكر مدينة «بورغ لى فالانس»، التى شهدت بداية السينما على يد الأخويين لوميير فى 1895، وبها متحف يخلد اختراعاتهما، وهذه مدينة «مولوز» التى تخصص 3% من موازنتها للثقافة، واهتم المسؤولون بها بترميم التراث المعمارى وقصور المدينة التى تمتد إلى القرن الثالث عشر وهكذا.. الخطة التى تمتد إلى 2013 خصصت لها الموازنة الفرنسية 70 مليون يورو لدعم 97 مشروعا، وتمويل وترميم وبناء فى جميع أنحاء فرنسا، لقناعة الحكومة الفرنسية ليس فقط بنشر الثقافة ولكن لأن الثقافة قد تكون طوق النجاة الذى يخرج الأقاليم الفقيرة من العزلة والركود. هكذا يقول التحقيق.. قرأته وأنا أتساءل عن الفرق بين الدول والأولويات وطرق التفكير.. فهذه دول تفكر فى نشر الثقافة، ونحن دولة تهدم الثقافة كل يوم.. هذه دول تفتح متاحف فى مدن وقرى صغيرة، ونحن حتى لا نستطيع أن نحافظ على متاحفنا ومقتنياتها فى قلب العاصمة.. هذه دول تستخدم الثقافة فى محاربة الفقر والركود الاقتصادى، ونحن نستسلم للفقر والركود والتطرف ونقول لا ثقافة مع الفقر.. طبعا.. هناك من سيرد فورا 70 مليار يورو ألم تقرأى جيدا؟.. وأعرف طبعا أن الرقم ضخم.. لكن فرنسا ستنفقه فى 3 سنوات فقط.. ألم ننفق مثله وربما أكثر على موازنات موظفى وزارة الثقافة ومهرجاناتها غير المجدية ومطبوعاتها المهترئة على مدى السنوات الماضية؟! القضية ليست فقط موارد، ولكن فى كيفية إدارة الموارد.. وأشرد أحيانا بأحلامى: لماذا لا توجد مراكز ثقافية فى قنا وسوهاج والوادى الجديد والبحيرة وسيناء..؟! لماذا لا نبحث عن موطن محمود سعيد ومسقط رأس صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل وسيف وانلى، فنقيم لهم متاحف صغيرة، مزارات ولو بسيطة.. ليس للسياح فحسب ولكن على الأقل لأهل البلد ليتعرفوا عليهم ويدركوا قيمة أدبائهم وشعرائهم؟! لماذا لا نقيم مهرجانات فى الأقاليم، فنكتشف مواهب وأصوات وخطوط عشرات بل مئات المصريين فى كل بقاع المحروسة.. هل اقتصر الحلم على مهرجان القراءة للجميع.. هل اقتصر الحلم على المتحف الكبير، بينما العالم يبحث عن المتحف الصغير فى كل مدينة وقرية.. لماذا لا نبحث عن كُتّاب طه حسين ومندرة حافظ إبراهيم وصالون مى زيادة؟! إذا سافرت إلى فرنسا أو النمسا، فلا تزر المتاحف فقط، لكن ستجد فى كل بلدة منزل فنان أو مقهى كاتب، بينما نحن نهدم كل البيوت وكل القصور فى أسيوط وسوهاج والمنيا وحتى فى القاهرة. الثقافة.. أحيانا هى أكل عيش، المتاحف، البناء، المزارات، وسائل المواصلات، الفنادق. فرنسا الكبرى، ذات الاقتصاد الضخم، تحارب الفقر والركود بالثقافة.. أما نحن فنعيش فى قلب الفقر ولا نحاول أن نرفع رأسنا منه بل نضيع الثقافة.. ليس لأننا لا نملكها بل لأننا لا نملك رؤية.. ولا نملك إرادة الثقافة هنا.. أيضا قرار سياسى. آخر الكلام: المقال السابق ليس ضمن سلسال الهجوم على فاروق حسنى وزير الثقافة.. لكنه إدراك أنه لا الثقافة ولا التعليم أبدا على قائمة أولويات أى حكومة.. من زمان!!