يواجه السودان مصيرا مجهولا بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السودانى عمر البشير بتهمة المشاركة فى ارتكاب جرائم حرب وجرائم إنسانية فى إقليم دارفور، ويأتى القرار فى لحظة فارقة فى تاريخ السودان قد يتوقف عليه مستقبل البلاد برمتها، خاصة فى ظل حالة الانقسام والتشرذم السياسى والأمنى الكبير الذى تعانيه من هشاشة الأوضاع الأمنية فى دارفور وتعهد المتمردين بإسقاط نظام البشير والمساعدة فى اعتقاله، بينما لا تتضح فى الأفق معالم الموقف الفعلى الذى يمكن أن تتخذه الحركة الشعبية لتحرير السودان، شريك الحكومة الشمالية فى الحكم، من تسليم البشير للمثول أمام المحاكمة، مع اندلاع بؤر نزاع أخرى فى ملكال وكردفان وشرق السودان. ومما لا شك فيه أن المتمردين وأنصارهم فى الخارج، خاصة فى بريطانيا وفرنسا وغيرهما من دول الجوار «تشاد» والدول الأفريقية الأخرى لعبوا دورا فى تزكية الصراع إلا أنهم يلقون على الحكومة السودانية وقواتها بالمسؤولية عن الجرائم التى ارتكبت فى الإقليم، ويأملون فى ذلك بتحقيق نصر سياسى من خلال الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبهم ومشاركتهم فى الحكم، واضعين نصب أعينهم ما آلت إليه الحرب الأهلية التى دامت 22 عاما بين القوات الحكومية والحركة الشعبية لتحرير السودان من اتفاق نيفاشا للسلام فى 2005 والذى جعل من المتمردين السابقين شريكا وحيدا للحكم مع الخرطوم. وهنا يفرض الوضع العديد من العقبات على الحكومة السودانية من ناحية، ويتيح لها خيارات كثيرة تستلزم تقديم المزيد من التضحيات فى محاولة لإغراء متمردى دارفور بنبذ العنف والحوار، لبحث مستقبل الإقليم، ودراسة كيفية إشراكهم فى الحكومة وإدارة شؤون الإقليم من ناحية ثانية، بحسب العديد من المحللين الذين يؤكدون أن الوقت قد نفد من يد الخرطوم لكن خيار المصالحة الذى يغوى المتمردين ليس مستحيلا فى ظل الدعم العربى والأفريقى لمساعى السلام فى غرب السودان، ولكن سجل الجانبين منذ اندلاع الصراع لا ينبئ بحل سريع للأزمة، خاصة بعد صدور مذكرة اعتقال بحق البشير. ويمكن أن يمثل اتفاق المبادئ الموقع فى الدوحة بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة إطارا للحل السلمى وما سبقه من اتفاقات عديدة فى نيجيريا بالوساطة الأفريقية، إلا أن تجدد الاشتباكات المسلحة بين القوات الحكومية وميليشيات المتمردين نسفت فرص السلام وأرجعت الوضع إلى المربع «رقم صفر». كما يصعب الموقف ترحيب حركة العدل والمساواة كبرى الحركات المتمردة فى الإقليم بصدور مذكرة التوقيف ورفضها التفاوض مع الحكومة السودانية، أى أنها ستستغل الموقف لتحقيق مزيد من الحقوق على حساب الحكومة المركزية، خاصة بعد مطالبة خليل إبراهيم زعيم الحركة، الرئيس السودانى، بتسليم نفسه مما يشكل عقبة قوية فى طريق تحقيق السلام ما لم تتقدم الحكومة السودانية بضغط عربى وافريقى قوى على كل المتمردين بالدخول فى مفاوضات السلام، ولكن هذه المرة لابد أن تكون مصحوبة بإطار زمنى للتوصل لاتفاق وضمانات من تلك الأوساط لإجبار طرفى الصراع على تنفيذه. ومما يدعم هذا الحل، لو أقدمت الخرطوم بعرض، كمبادرة منها لتحسين الوضع الأمنى وإنهاء القتال فى دارفور، رفض الاتحاد الأفريقى لمذكرة التوقيف وتأكيده على تهديدها للسلام فى السودان عامة ودارفور خاصة كما يدعمه ما كشفه مبعوث الاتحاد، على عبدالسلام التريكى، أن هناك 38 دولة أفريقية موقعة على «ميثاق روما»، مهددا بأن تلك الدول ستنسحب من عضوية المحكمة الجنائية إن اصدرت القرار وهو ما قد يشكل ضغطا على مجلس الأمن ويمكن أن يؤجل قرار التنفيذ فى ظل الضغط العربى والأفريقى على أمل تحسن الأوضاع الأمنية. إلا أنه بعد صدور قرار الاتهام، فإن من تهديدات الجيش السودانى لمن يدعم المحكمة الجنائية ورد المتمردين باستعدادهم للتصدى للقوات الحكومية التى كثفت من انتشارها، قد يحدث ارتباكات كبيرة على الساحة الداخلية، فالحركات المسلحة فى دارفور أصبحت فى حالة «بعث جديدة» مدفوعة بالهجوم الدولى على النظام الحاكم، وسترفع من سقف مطالبها وربما يحاول بعضها أن ينشط عسكريا او قد تشن انقلابا جديدا مثلما قامت به فى العام الماضى«. وقد يكون هناك رحيل محتمل لبعثة الأممالمتحدة وقواتها والمنظمات الإنسانية أو بقاؤها فى وضع غير آمن، الأمر الذى يعنى أن السودان سيكون مواجها بخيارات داخلية صعبة، وقد ينزلق نتيجة لتصرفات غير محسوبة إلى العودة إلى الحرب الأهلية، إن زادت الخلافات داخل الحزب الحاكم فى السودان بين من يدعمون البشير وأولئك الذين يطالبون بتنحيه عن السلطة حفاظا على مستقبل السودان.