بعيدا عن أجواء التوتر الدبلوماسى بين البلدين، لعل أبرز ما يشعر به المصرى فى سوريا بشكل عام هو «الحنين» إلى قاهرة الستينيات، لا لمجرد أن السوريين يعشقون كل ما هو ناصرى -كما هو معلوم-لكنها أجواء البلد وروحه التى مازالت تحيا وتتنفس هواء أواسط القرن العشرين، فهناك تشعر وكأن السلاح مازال «صاحيا»، وتدفعك الأعلام وشعارات الدعم والتأييد وآلاف الصور للرئيس الأسد الأب على جدران الوزارات والبيوت، إلى تصور أن البلاد تدق طبول الحرب، وأن هناك حالة تأهب قصوى واستنفار أمنى لإعلان التعبئة تمهيدا لخوض الحرب ضد العدو الصهيونى. الصور والتماثيل والتفاف المواطنين فى السوق والشارع - باستثناء القليلين جدا- تعيد إلى الأذهان التقاء المصريين فى ستينيات القرن الماضى على قلب رجل واحد، عندما لم يكن الخلاف واردا، ومبدأ الاعتراض غير مطروح، وحق النقد مرفوض، وهو ما عبر عنه «شادى» بائع الشاورما بتأكيده أن «الجميع يحب الرئيس بشار حتى معارضوه» وبالرغم من أنه هو نفسه من المعارضين، يقول «يكفى أن بشار محافظ على كرامتى كمواطن ولم يرفع العلم الإسرائيلى على أرضنا حتى الآن». ورغم إقرار «شادى» بالضائقة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، والكساد التجارى، خلافا لما كانت تعرف به أسواق الشام على مدار عقود من انخفاض الأسعار وجودة المنتجات، لاسيما فى العاصمة الاقتصادية حلب، فإنه عزا الوضع الاقتصادى السيئ إلى الأزمة المالية العالمية ككل، بل ذهب زميله «بسام» إلى حد القول إن هناك أزمة غذائية بدأت فى سوريا عندما «منعت مصر تصدير الأرز إلى سوريا عام 2007» قال ذلك وهو ينظر لى بعتاب، فى إشارة إلى صفقة الأرز- مقابل- القمح التى قامت وزارة الاقتصاد السورية بإلغائها، إثر وصول شحنة أرز مصرى تبلغ 4100 طن، إلى ميناء اللاذقية، وتبين من الفحص عدم صلاحية بعضها. ومن المشاهد الكثيرة التى كانت تستدعى حقبة الستينيات إلى الأذهان ذلك المشهد المتكرر لبائعى «اليانصيب» المنتشرين بكثافة فى شوارع دمشق، لبيع تذاكر يانصيب رأس السنة، التى كثيرا ما كانت تجسدها أفلام الأبيض والأسود المصرية القديمة، عاكسة ثقافة «البريمو» كتجارة تداعب أحلام الفقراء بالربح السريع، والتى يرى «أبو وسيم» أحد بائعى اليانصيب على مفرق سوق الحميدية الشهيرة، أنها تجارة تنعش آمال المواطنين المطحونين وتجعلهم يحلمون بغد أفضل، حتى لو اقتصرت أحلامهم على الخيال دون أن ترى النور.. بيكفى. ويقف «أبو وسيم» بين عشرات التجار، مناديا زبائنه بصوته العالى منوعا بين نبراته «مين راح يربح ع ال 60 (60 مليون ليرة سورى)، ليذكر بشكل أو آخر بالقلة المتبقية من تجار (البريمو) فى مصر، والذين تندر مشاهدتهم إلا فى أماكن محدودة، منها محطة مترو (جمال عبد الناصر)». حتى زجاجات المياه الغازية فى سوريا كان فيها ما يدعو للحنين إلى شعار «الإبرة والصاروخ» الذى قتل استهلاكا خلال الحقبة الناصرية، لاسيما كلما شاهدت ذلك البراد (الثلاجة) القابع فى مطعم الشاورما الكائن فى مدخل السوق القديمة بدمشق والممتلئ بزجاجات المياه الغازية التى تشبه فى شكلها الخارجى إلى حد كبير مثيلاتها العالمية، وإن كانت تنتجها شركة «أوغاريت» التجارية السورية لإنتاج وتوزيع المياه الغازية، التى تأسست عام 1986. الشيق أن انتشار مشروبات «أوغاريت» فى الأسواق لا يعنى احتكارها للسوق، إذ تتاح أيضا الأنواع الأخرى العالمية، وهو ما علق عليه أحد الباعة فى ذات المطعم قائلا إن «هذه الزجاجة سعرها لا يتجاوز ال10 آلاف ليرة ليكون بمقدور الجميع شراؤها، أما الأصناف العالمية الأخرى فهى متاحة أيضا ولكن سعرها أعلى بكثير وقد يصل إلى 50 ألف ليرة، وبالتالى لا يشتريها إلا المقتدرون». وللحق، فإن هذه المشروبات رخيصة الثمن لم تكن لتقل فى مذاقها جودة عن تلك العالمية، وما أثار حيرتى السر وراء نجاح سوريا فى تحقيق مبدأ الاكتفاء الذاتى دون الانغلاق اقتصاديا فى تلك الجزئية تحديدا، وعما كان من الممكن أن يؤول إليه حالها إذا ما طبقت النظرية نفسها فى شقها السياسى.