ربما لا يوجد شعور بالقسوة يضاهى ما يمكن أن تشعر به أم، حينما تحنو على صغيرها لتحتضنه بقوة وحب،. فتفاجأ به ينفر منها ويبتعد عنها إلى عالم خاص صنعه لنفسه، وهو لم يتجاوز العامين من عمره، ينتهى تأثير رد الفعل الصادم للأم بمجرد بكاء الطفل المتواصل دون سبب معلوم. يزداد المشهد قتامة كلما بدت تصرفات الصغير غريبة على أسرته، فقد يكون دائم الحركة، مشتت التركيز، لا يهتم بمن حوله من البشر، فقط ينجذب لأشياء قد يراها البعض بلا معنى، وربما تناديه أمه باسمه مرات كثيرة لكى ينتبه إليها فلا يشعر بها، مفضلاً البقاء فى عالم زجاجى وضع نفسه فيه، فلا ينطق بكلمة واحدة عندما يبلغ عامين كغيره من الصغار، وإذا نطق فإنه يردد الكلمة التى عرفها مرات كثيرة لنفسه فقط.. هكذا يبدو الطفل المصاب ب«التوحد» لمن حوله. أعراض ما تراها الأم على صغيرها تتداخل مع أمراض أخرى كثيرة لكنها لا علاقة لها بحقيقة مرضه، فالتوحد -كما تقول مها هلال، رئيس الجمعية المصرية لتنمية قدرات الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة- هو «خلل وظيفى يصيب المخ، وليست له أسباب معروفة، وهو من أصعب الإعاقات التطويرية التى تصيب الطفل فى سنوات عمره الأولى، وتؤدى إلى تأخره لغوياً وصعوبة تفاعله اجتماعياً وضعف اهتماماته وتخيله». وتضيف: «مرض التوحد لا يوجد له علاج حتى الآن، رغم تقديرات منظمة الصحة العالمية التى تفيد بأن نسبة التوحد بلغت 1 - 500 فى العالم وهو ما يدعو إلى ضرورة التدخل الاجتماعى المبكر للطفل من أجل تحسين إعاقته ودمجه فى المجتمع». وتتابع مها قائلة: إن خطورة التوحد تكمن فى التشخيص المتأخر للمريض، فكثير من الأطباء كانوا يجهلون المرض منذ فترة وجيزة، ويخلطون بينه وبين الصرع أو الأمراض المشابهة له، وفى الوقت نفسه تستمع الأم لنصائح كبار العائلة لديها بأن الطفل يشبه عمه الذى تأخر لغوياً، ولكنه عندما كبر تكلم ولم يكن يعانى من شىء، «وهو ما يؤدى إلى صعوبة دمج الأطفال فى المجتمع» - كما تقول هلال. وأوضحت أن علاج التوحد يتم عبر فريق مكثف من المتخصصين فى التخاطب والعلاج الوظيفى من أجل تعليم الطفل طرق استخدام الأشياء والاعتماد على النفس، وطريقة التحدث، وأضافت: «طفل التوحد يتعرض لتقييم دورى لمعرفة ما يحب، وما يكره حتى يتم التعامل معه بشكل جيد، والوصول إلى أفضل النتائج». ونصحت رئيسة الجمعية بضرورة اللجوء إلى المتخصصين حال تأخر الطفل لغوياً، لأنها إحدى علامات التوحد المعروفة، كما أن النشاط الزائد أو الخمول الزائد إحدى سماته كمرض. وأوضحت قائلة: «عندما يتم التدخل المبكر للأطفال المصابين بالتوحد فإن نسبة شفائهم تكون قوية، ولكن إذا تأخرت الحالة كثيراً فإن هناك صعوبة شديدة لشفائهم من المرض». وذكرت أن نسبة المصابين بالتوحد فى مصر تصل إلى 363 ألف طفل وهى نسبة كبيرة، على حد وصفها، ينبغى العمل على دعمها وإدماجها فى المجتمع. وأكدت مها هلال أن طفل التوحد نمطى لا يحب التغيير بأى شكل من الأشكال ولا يملك القدرة على التخيل كغيره من الأطفال، ولا يتواصل بصرياً مع من يتحدث إليه فيبدو كأنه لا يسمع رغم أن لديه حاسة سمع قوية. وقالت إن إدخال الأطفال فى مؤسسات تعليمية لذوى الاحتياجات الخاصة لعلاج المتوحدين أمر مهم ولكن الأكثر منه أهمية هو تعليم الأسرة كيفية التواصل مع طفلها وكيفية التعامل معه. فعلى حد قولها: «طبيعة المتوحد أنه يرفض الآخر، ودور الأسرة الحقيقى هو أن تدخله فى المجتمع تدريجياً وتعلمه كل ما حوله بطرق مختلفة يتم تعليمها لأسرة الطفل المصاب من خلال جمعيات ومراكز متخصصة فى ذلك حتى نصل بالطفل إلى أفضل النتائج العلاجية، خاصة أن علاجه لا يعتمد على أدوية محددة وإنما على بعض الفيتامينات المطلوبة لتنشيط الذاكرة». فيما قال محمد حسن، مدير البرامج التعليمية بجمعية «الابن الخاص»: «إن كل طفل من أطفال التوحد له طريقة علاجية تعليمية خاصة، فلكل منهم سمات مختلفة، وبالتالى فإنه يعتمد على التعليم الفردى من قبل متخصصين فى التخاطب وطريقة تعلم استخدام الأشياء أو ما يسمى العلاج الوظيفى، ويعتمد المتخصص فى تعليم المصاب على حاسة البصر لأنها غالباً ما تكون أقوى حواس المتوحد». ويشير حسن إلى ضرورة تعزيز الطفل المتوحد بالأشياء التى يحبها، موضحاً: «إذا كان الطفل يحب التصفيق نقوم بالتصفيق له كلما فعل شيئاً جيداً حتى يعلم أنه أمر جيد فيقوم بفعله مرة أخرى وهكذا، إلى أن يصل إلى أفضل درجة فى التعلم». وذكر حسن أن تكلفة تعليم مريض التوحد كبيرة، لأنه يتعلم عبر فريق جماعى وبشكل فردى وهو أمر مكلف، مضيفاً: «لا توجد لدينا أى جهات تمويلية لمثل هؤلاء الأطفال المصابين، خاصة أن هذا المرض يوجد فى الطبقات الفقيرة والغنية معاً، وهو ما يوضح أن المصابين من الفقراء لا يمكنهم العلاج أو التواصل فى المجتمع نظراً للظروف المادية الصعبة التى تلحق بأسرهم». وقال حسن إن التوحد «أطياف» منها ما هو قوى ومنها ما هو ضعيف، وإذا أصيب الطفل بطيف قوى فإن نسبة الشفاء منه تكون قليلة فى حين أن الشفاء من التوحد ذات الطيف الضعيف كبيرة جداً، وهناك أشخاص اندمجوا بالفعل فى المجتمع، واستطاعوا أن يتحدوا هذه الإعاقة بعلمهم، خاصة أن منهم نسبة تقترب من 5٪ تتميز بالذكاء الشديد.