تنصيب الرئيس عند الأمريكيين يكون يوم عيد.. يأتون فيه من مختلف الولايات رافعين الأعلام مبتهجين بهذا اليوم الذى يجسد قمة الديمقراطية عندهم، وأجهزة الأمن تحمل عبئا ثقيلا فى هذا اليوم لأنها تقوم بتأمين الرئيس والمواطنين ولاتستطيع منع مواطن أمريكى من المشاركة.. وهو يوم مختلف عما يحدث فى بلادنا، فتنصيب الرئيس عندنا يتم فى يوم عزاء الرئيس السابق، وغالبا تكون الأعلام منكسة من باب المجاملة للفقيد الراحل، وربما يكون هناك حظر تجول لو كان الرئيس السابق مات مقتولا، حتى تنتقل السلطة للرئيس الجديد بسلام. والثلاثاء الماضى كان الملايين داخل الولاياتالمتحدة وخارجها يتابعون حفل تنصيب باراك أوباما الرئيس رقم 44 للولايات المتحدة.. وبرغم كل مساوئ الرئيس السابق جورج بوش، ورغم كل جرائمه فى حق الإنسانية، ورغم قسوته وجبروته وميله للعنف، لم يتمكن أن يمد فترة رئاسته دقيقة واحدة بعد موعدها المقرر.. وقد أدى الرئيس الجديد اليمين بحضور الرئيس بوش و4 رؤساء أمريكيين مازالوا على قيد الحياة - وكلهم من البيض – ومعهم حوالى 3 ملايين مواطن أمريكى لم يمنعهم البرد القارص من الاحتفال بالديمقراطية فى أروع صورها.. والفرحة لم تكن بسبب أن رئيسا جديدا حل محل السابق الذى كان الأسوأ على الإطلاق، ولكنها كانت بسبب آلية الانتقال الديمقراطى النموذجية للسلطة فى أكبر بلد فى العالم. ورغم أن مهمة أى رئيس أمريكى تحقيق المصلحة الأمريكية فقط، إلا أن الاختلاف فى طريقة الإدارة بين بوش وأوباما أمر طبيعى، وقد أعلن أوباما نفسه فى خطاب التنصيب وأمام بوش أنه سيسلك طريقا مختلفا، وقد بدأ بالفعل فى إثبات ذلك خلال الأيام الثلاثة الماضية.. ولكن بوش لم يجرؤ على اختراق القواعد الديمقراطية، ولم يعط لنفسه الحق فى منع أوباما من الوصول للسلطة باعتباره سفيها وضعيفا، ولم يتهمه بعدم القدرة على إدارة البلاد ولا بضعف الخبرة، ولم يقل إن أمريكا تمر بمرحلة تاريخية حرجة تحتاج أن يستمر هو فى السلطة خوفا من أن تغرق أمريكا بعده.. ولم يجرؤ بوش على التدخل فى سير الحملة الانتخابية على مدى عامين رغم أنه كان رئيسا يملك مقاليد الأمور. وعقب الاحتفال غادر بوش إلى مزرعته فى ولاية تكساس ليصبح مواطنا عاديا بدرجة رئيس سابق، ولاينتقص ذلك من قدره، لأن أمريكا بلد ديمقراطى يخرج فيه الرئيس فى توقيت محدد بشكل طبيعى.. كما غادر أوباما وأسرته ليسكنوا البيت الأبيض بدلا من بوش، وهو يضع فى حساباته أنه سيتركه فى يوم من الأيام بعد 4 سنوات أو 8 على الأكثر، وسيصبح رئيسا سابقا أيضا يجلس فى حفل تنصيب الرئيس رقم 45 مع سابقيه إن كان حيا يرزق. لم يحزن بوش الذى كرهناه جميعا لأن الملايين من شعبه حضروا وصفقوا بحرارة بالغة للرئيس التالى له وفى حضوره.. فهذه هى اللعبة الديمقراطية.. فالأمريكيون يختارون رئيسهم من بينهم لفترة محددة، ومن حقهم هم فقط أن يقرروا هل يكتفى بمدة واحدة أو منحه مدة إضافية كحد أقصى، ليعود بين صفوف المواطنين مرة أخرى.. وكلمة الرئيس السابق ليست عيبا كما يتصورونها فى الدول غير الديمقراطية، بل إنه يكون شخصا محترما يستشار فى الأمور المهمة لخبرته فى الرئاسة، ويحضر المناسبات بقدر كامل من الإحترام، كما حدث فى حفل التنصيب الأخير، فالرؤساء السابقون على اختلاف مذاهبهم الحزبية والفكرية والإدارية، كانوا يتعانقون ويتحدثون دون تعقيدات. والمواطن هو أساس العملية الديمقراطية، وهو صاحب الاختيار، ولهذا يخشى الرئيس فى النظم الديمقراطية أن يخطئ أحد من المسؤولين فى إدارته فى حق المواطن الذى كان سببا مباشرا فى توليه الرئاسة.. وليس معنى أنه رئيس أنه الأكثر فهما لكل شىء، فهو مواطن عادى أولا وأخيرا، وهو يستعين بالخبراء فى كل المجالات ويتشاور معهم لدراسة كل أمر وبعد أن يلم بكل التفاصيل عليه أن يتخذ القرار، ويكون هو المسؤول الأول عنه، لأن الديمقراطية تعنى إدارة جماعية لأمور الدولة، و الرئيس المنتخب بهذه الطريقة يجد نفسه يفكر مليون مرة من أجل تنظيم إدارته. كنت أحد الذين تسمروا أمام شاشة التليفزيون الثلاثاء الماضى لأتابع حفل التنصيب غير عابئ بملابس ميشيل أوباما كما كان يفعل البعض، وغير منشغل بسياسة أوباما تجاه المنطقة، لأنه رئيس أمريكا وليس رئيسا لأى دولة فى المنطقة.. كنت أتابع فقط نظرات الحاضرين كلما اقتربت الكاميرا من أحد الوجوه سواء كان رئيسا سابقا أو نائبا سابقا أو وزيرا سابقا او مواطنا عاديا حضر من أجل الاستمتاع بالمشاركة فى هذا الحدث المهم.. ووجدت الفرحة والزهو فى عيون الجميع، فلم تخرج المدارس تلاميذها قسرا للمشاركة، ولم يصطف المواطنون فى هذا البرد مقابل عدة دولارات لإظهار الولاء للرئيس، فالكذاب تفضحه عيونه.. ولكنهم جاءوا فخورين بديمقراطيتهم وبدافع منها وباعتزاز واضح بها لأنها الأساس الذى جعل منهم أقوى دولة فى العالم. فعلا للديمقراطية مذاق مختلف عما نتذوقه. [email protected]