يقول الكاتب والشاعر الأمريكى إدجار آلان بو، فى مقال عن «فلسفة الإنشاء»، إن «حدث» موت بنت جميلة هو، بدون شك، أكثر المواضيع شاعرية فى العالم». وربما هناك عنصر شاعرى كامن فعلا فى كل مأساة، لكن مع ذلك لا يملك المرء إلا التشكيك فى أخلاقية استغلاله فى سياق سياسى انتهازى عند التعامل مع مسرح الدم والدمار المستمر فى غزة. لذلك، تسيطر على الريبة وخيبة الأمل عند متابعة الخطاب العربى العام هذه الأيام. ريبة نابعة من إحساس بأن الكثير من المعلقين والمسؤولين معنيون بالدرجة الأولى بالتنافس على إثبات قدراتهم الشاعرية والأدبية، مستغلين المأساة كفرصة للتألق فى فنون المزايدة والخطابة وتأجيج المشاعر، دون أن يبدو عليهم أدنى اهتمام حقيقى بإيجاد حلول عملية للخروج من المأساة الحالية أولا، ثم من متاهة الوضع العربى الحالى لكى لا تتكرر المآسى. الكارثة كامنة فى أن هذا الإطار الخطابى لا يمّكنهم من فعل غير ذلك حتى إذا أرادوا، لأن طبيعته أسطورية لا عقلانية، تربط بين الأشياء عن طريق فرض علاقات مستوحاة من عالم الشعر- من إطار التشبيه اللغوى والتصوير وتقنيات الإيحاء- بدلا من الاستعانة بمنهج نقدى، يسهل وضع الأحداث فى سياق يمكن فهمه واستيعابه عقلانيا.. لذلك فإن حالة الهيجان الحالية ليس من المتوقع أن تدوم طويلا بعد انتهاء الهجوم الإسرائيلى. ثم يعود النسيان، كما حدث بعد نوبات مماثلة من الدمار وسيل الدماء العربية فى الماضى، لأن التركيز كان دائما على الصورة والأسطورة.. ففى كل مرة ننسى تفاصيل الأشياء، التى تبدو عشوائية وعبثية، لأننا نفتقر أو نتجاهل الأداة التى تسمح بترتيبها وفهمها وتحليلها والربط عقلانيا بين مفراداتها، لكى يمكن حتى استيعابها وتذكرها. إذا كان الحال كذلك فكيف يمكن أن نستنتج منها دروس المستقبل؟ وفى ظل تلك الظروف من الطبيعى أن تتكرر المأساة، ومعها فى كل مرة جولة جديدة من الخسارة والدم، تصاحبها نوبات من الخطابة والندب والندم. ننسى التفاصيل ونتجاهل الحلول العقلانية، فتبقى الصورة المأساوية، والمواجع والأسطورة العبثية المستخدمة لتفسيرها، فعندما يبدو العالم عبثيا وعشوائيا، فى غياب مهنج عقلانى يساعد فى فهمه وفك ألغازه، تنتشر الأساطير.. والأساطير، من حيث التعريف، ليست قابلة للنقد أو التفنيد التجريبى، فوظيفتها هى إيجاد معنى للعالم بصرف النظر عن حقيقة افتراضاتها أو تماثلها مع ما يجرى فعلا. ولأنها لا تعتبر أن العالم يخضع لقوانين بسيطة محددة يمكن فهمها واستخدامها لتفسيره، فإنها عادة ما تفترض وجود «أصابع خافية» ومؤامرات معقدة محركة لمجرى الأمور. والعالم العربى منذ عقود غارق فى مستنقع مكون من هذا النوع من التفكير، وفى شبورة من الشعارات والأساطير، وطقوس الخطابة والتحريض، وتحريك رموز التاريخ والقومية والدين فى سبيل صراعات سياسية تخدم فى كثير من الأحيان الأهداف الضيقة للحكام والجماعات، وللمثقفين المتعاونين وبعض منابر الإعلام المتواطئة معهم. فى هذا النوع من الأفيون تكمن المؤامرة الحقيقية ضد الشعوب العربية، وليس فى المؤامرة المفترضة، التى يعدها اليهود لحكم العالم وإفساده والتى يتكلم عنها ميثاق حماس مثلا، والذى يذّكر الغرب بأقتم فترات تاريخة، عندما سيطرت على أجزاء كبيرة منه الحركات الفاشية.. الكثيرون فى الغرب لا يعرفون أن من يتمسك بين العرب بهذه اللغة لا يفهم مدى رنينها السلبى الصاخب - ومعانيها الكريهة - لدى الذهن الغربى، لأنها بكل بساطة نتجت فى إطار فكرى أسطورى يعتمد على التحريض والمزايدة والتعبئة لتأجيج المشاعر، قد أثبت نفسه فى خدمة من استخدمه فى العالم العربى لتحريك أجندته السياسية، وليس له علاقة وثيقة بما يحدث فعلا - أو بما حدث فى الماضى القريب - فى العالم الخارجى.. بل حتى لا يعنيه هذا العالم كثيرا، فهو يجهله ويتجاهله، ثم يشكو من قسوته ولا إنسانيته. الغرب يرى الدم والدمار فى غزة، لكنه لا يفهم لغة من وكلناهم نيابة عنا فى قضايانا المصيرية، أو حتى ما يحركهم، ولا يحب أو يحترم أفكارهم أو اتجاهاتهم، ويرتاب من أهدافهم، فلا يحكم فى صالح الفلسطينيين حتى فى ظل وجود الأدلة الوفيرة التى تشير إلى أنه يجب فعل عكس ذلك.. الناس ترى الأحداث وتتفاعل معها عاطفيا وإنسانيا، لكن فى غياب لغة مشتركة من الصعب أن يتفاعل العالم الغربى عمليا وسياسيا على المستوى المطلوب، لأنه بكل بساطة يعتبر من يمثل الفلسطينيين فى غزة من أعدائه.. وفى ذلك بالطبع موضوع يجب أن يتأمل فيه قادة ومؤيدر «المحظورة» فى مصر.