إنها السيدة «تحية كاظم»، قرينة الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر»، ورفيقة حياته وشريكة كفاحه، مصرية عظيمة تردد أن عائلتها تنحدر من أصولٍ إيرانية، رآها المصريون يوم رحيل القائد الكبير نموذجًا إنسانيًا راقيًا للأرملة الحزينة التى فقدت الحياة والأمل فى لحظة واحدة، إنها السيدة التى توقفت أمام مجموعة من الفنيين والعمال وهم يقومون بتركيب المصعد فى منزلها وتطلعت إليهم بنظراتٍ قلقة؛ لأنها أدركت أن الحالة الصحية للزوج الوفى قد بدأت تأخذ منحنى النهاية، وهى السيدة التى رفض زوجها «الصعيدى» أثناء زيارة رسمية ل«أثينا» أن تتأبط زوجته ذراع الملك «بول» ملك اليونان وتتأبط الملكة «فيكتوريا» ذراعه فى تقليدٍ بروتوكولى لم يقبله، وخرج عليه ذلك الرئيس الثائر فى مناسباتٍ مختلفة، وما زلت أذكر تلك الأيام من خريف عام 1962 فى مستهل حياتى الدراسية بجامعة القاهرة، حيث فشلت أنا وعدد من زملائى فى اكتشاف شخصية ابنتها السيدة «هدى» التى كانت تدرس معنا ضمن عددٍ محدود من طلاب قسم العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد، ذلك أنها كانت طالبة عادية، لم نتعرف عليها إلا بوجود «فرد أمن» يتابع تحركاتها عن بعد فى طرقات الكلية، بينما ضابط الحراسة من سكرتارية الرئيس يجلس فى مكتب قائد حرس الكلية.. إنها قصة عصرٍ مضى وأيامٍ ولت وقد لا تعود. إنها السيدة «تحية عبدالناصر»، التى ذهبت لأداء فريضة الحج بعد رحيل زوجها بسنوات قليلة فخرج الملك العربى الأصيل «فيصل بن عبدالعزيز»، رحمه الله، عن التقاليد الملكية المرعية فى العرش السعودى ليتصل شخصيًا ويوميًا بالسيدة قرينة خصم حياته «جمال عبد الناصر» ليقول لها: «كيف حال ضيفتنا اليوم»، ولا يكتفى بأن تقوم عنه بذلك قرينته الراحلة الملكة «عفت» .. إنها خصومة العظماء وخلاف الأقوياء، ولقد فعل «الحسين بن طلال» ما يشبه ذلك وأكثر عندما استقبل زميلتى الدكتورة «هدى عبدالناصر» وزوجها الصديق الأستاذ «حاتم صادق» فى عمَّان، حيث كانا فى زيارةٍ للعاصمة الأردنية لأمرٍ يتصل بعمل الزوج المرموق، وهى أيضًا السيدة «تحية عبدالناصر» التى استقبلتها السيدة «أنديرا غاندى» فى قاعة الشرف الكبرى المسماة بالقاعة التذكارية التى يستقبل فيها رئيس الدولة الهندية الشخصيات المتميزة دوليًا فى مطار «نيودلهى» ويومها وقفت الدولة الهندية كلها، على ضخامتها وعظمتها، تحيةً للأرملة العظيمة القادمة من أرض النيل إجلالاً وإكبارًا لرجلٍ غيَّر مسار التاريخ وفجًّر أكبر ثورةٍ فى الشرق الأوسط، وقد كان لى شرف مرافقة السيدة «تحية عبدالناصر» وابنتها السيدة «منى» وابنة شقيقتها السيدة نادية أرملة المرحوم «محمد فهمى السيد دراز»، المستشار القانونى للرئيس «عبدالناصر» والوفد المرافق لهم، وأتذكر كيف تهافت السفراء العرب على طلب الدعوة لحضور العشاء الذى أقمته فى منزلى على شرف السيدة العظيمة رغم القطيعة الدبلوماسية من الدول العربية لمصر بسبب الخلاف حول سياسات الرئيس الراحل «أنور السادات» ورؤيته الوطنية للدور المصرى فى الصراع العربى الإسرائيلي، وأتذكر جيدًا أن سفير دولة الكويت عميد السلك الدبلوماسى فى العاصمة الهندية قد وقف فى نهاية العشاء ليعلن أن الدعوة مساء اليوم التالى ستكون على شرف قرينة المناضل العربى الذى صان استقلال الكويت وهى دولة وليدة أمام أطماع «عبدالكريم قاسم» الزعيم الأوحد فى العراق حينذاك، وتمضى السنون وأعمل فى مؤسسة الرئاسة وتظهر «مانشيتات الصحف» لتقول: الادعاء يطالب بإعدام عددٍ من المتورطين فى قضية «تنظيم ثورة مصر» ويأتى ذكر الدكتور «خالد جمال عبدالناصر» من بينهم، فأذهب إلى السيدة العظيمة فى بيتها بمنشية البكرى، لأجدها قلقةً حزينة حيث أجلستنى فى حجرةٍ تفوح منها رائحة التاريخ وعلى رفوفها صور زعماء العالم فى لقاءاتهم بالرئيس الراحل «عبدالناصر» باللونين الأبيض والأسود -والصور القديمة ذات تأثير خاص لدى جيلٍ عرف الأفلام السينمائية أيضًا بالأسود والأبيض- ولقد طمأنتها فى ذلك اليوم كثيرًا وهدَّأت من روعها وقلت لها إننا جميعًا نعرف حرص الرئيس «مبارك» على أسرتى الزعيمين الراحلين «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات»، ووفاءه لاسميهما الكبيرين، كما أن العدالة سوف تأخذ مجراها لأن ادعاء النيابة شىء وحكم المحكمة أمرٌ آخر. إنها سيدةٌ من مصر عاشت فى صمت، ورحلت فى هدوء، ومازلت أذكر أن جلستى فى أمسية الاحتفال بذكرى الأربعين على وفاتها -وقد كانت فى القاعة الملحقة بمسجد زوجها- كانت بجوار الفريق أول «محمد فوزى» رحمه الله، حيث تبادلنا معًا كلمات الثناء على تلك الشخصية الطيبة والعزاء لتلك الأسرة التى تربطنى بها شخصيًا أواصر قوية من زمالة الدراسة وصداقة العمر، إنها أسرة زعيمٍ مضى إلى رحاب ربه وفى يديه سجلٌ حافل بالعمل من أجل وطنه وأمته فلقد مضى نموذجًا لعصر العدالة الاجتماعية وقضى شهيدًا لرؤيته القومية.