تتلخص مأساة غزة اليوم فى ذلك الصراع الذى يشقق العالم العربى كله، لا غزة وحدها، بين جماعة الفنادق وأهل البنادق ورجال الخنادق. أهل غزة، رغم اعتزازهم ببنادق المقاومين، هم اليوم ضحية بنادق الاحتلال. إن القلب لينفطر لرؤية هؤلاء الغلابة الذين يواجهون عدواً غاشماً بصدورهم وبنادقهم البدائية. أهل غزة أيضا هم ضحية تجار الخنادق من المهربين، وضحية لقيادة محاصرة ومعزولة تحت الأرض وفى الخنادق، أما قيادة المقاومة من الفنادق، مثل السيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسى لحركة «حماس»، والمقيم فى دمشق، والذى لايصلى بنيران غزة، فقط يحض الغلابة على المقاومة، رغم أنهم يواجهون أعتى آلة عسكرية فى التاريخ، وهم الضعفاء والجوعى والمرضى. المأساة على مستوى النضال الفلسطينى اليوم تتلخص فى ذلك الفارق بين رؤية أهل الخنادق، ومايحدث على الأرض ويتكبده حملة البنادق، وتلك الرؤية المتطرفة القادمة من المترفين ممن يقيمون فى الفنادق. من استمع جيدا إلى خطاب إسماعيل هنية الذى فيه شيء مكان الليونة والقبول بالمبادرات التى تخفف وطأة الاحتلال أو توصل غزة إلى حالة وقف إطلاق نار، وبين خطاب خالد مشعل الرافض لوقف إطلاق النار، لأن الهدنة من وجهة نظر مشعل هى نوع من تعطيل المقاومة، من يستمع إلى الخطابين و ينظر إلى وجوه الرجلين يدرك أن هناك شرخا بدأ يظهر بين رجال الخنادق فى الداخل ورجالات الفنادق فى الخارج. على مستوى القيادة السياسية لحماس، وإذا كان الأمر كذلك بين الفنادق والخنادق فظنى أن من يحملون السلاح من الشباب الفلسطينى يدركون حجم الخسارة التى تكبدتها الحركة نتيجة لقرار سياسى غير محسوب وأنهم يدفعون ثمنا غاليا لاتخاذ قرار متهور بإنهاء حالة الهدنة مع إسرائيل، قرار لم يتخذ بروية أو دراسة وإنما اتخذ فى لحظة «حماس». إن مايحدث اليوم لن يضر بوحدة الصف الفلسطينى فقط، وإنما قد يشق حماس ذاتها إذا ما تعمق الخلاف بين جماعة الفنادق وقادة الخنادق وحملة البنادق. هذا الانقسام ونقص التخطيط يشير إلى أن الفلسطينيين ينزلقون من الموقف الأفضل إلى الأسوأ، ثم إلى الذى يفوقه سوءا، وهكذا تتدنى وتتواضع مطالب الفلسطينيين من قرار التقسيم الذى كان سيمنحهم نصف فلسطين؛ إلى أوسلو و«الأرض مقابل السلام» فى عهد أبو عمار، إلى «الهدنة مقابل الكهرباء» فى عهد إسماعيل هنية وخالد مشعل. فالفلسطينيون يهبطون على سلم المطالب بدل أن يصعدوا من سقفها، وليس هذا فى فلسطين وحدها، فالناظر إلى نتائج (النصر الإلهى) الممول ب(الدولار الطاهر)، يعرف أن جنوب لبنان الذى كان محررا لم يعد بعد حرب تموز كذلك، فقد أصبح اليوم تحت إمرة القوات الدولية التى تسيطر عليه وتبقى السيادة اللبنانية منقوصة على الأرض اللبنانية. ولكن جمهور الفضائيات اليوم لديه كل الثقة فى المقاومة التى قادته إلى انتصارات كاذبة وخفضت سقف مطالبه حتى بلغ الفتات.. جمهور تطربه رنات أصوات مناضلى الفنادق، ولكن متى ما أصبح الصبح بعد وقف إطلاق النار ورأينا حجم الدمار الذى حل بغزة مقارنة بما حدث لإسرائيل، لربما صدقنا أهل البنادق أكثر من أهل الفنادق. ثلاثية الفنادق والبنادق والخنادق لاتنطبق على الفلسطينيين وحدهم، وإنما يمكن تقسيم حتى دول المنطقة إلى دول الخنادق ودول البنادق ودول الفنادق. أما دول البنادق فهى دول المواجهة التاريخية المعروفة، أما دول الخنادق فهى من أمثال جبهات الصمود والتصدى التى تسكن فى الخنادق ولا نسمع لها دوى رصاص خارج حدودها، أما دول الفنادق فحدث ولا حرج، هناك دول تتفرج على مشهد القتل من غرف الفنادق الفاخرة، وهناك دول أخرى هى مجرد فنادق أو يمكن أن يسكن أهلها فى فندق، ولكنها تتبجح بقيادة الصمود العربى والحس العالى لا السد العالى. فضائياتنا تتعيش على صور ضحايا بنادق العدو لتروج لها عند أصحاب الفنادق كى تكون مادة لأحاديثهم على العشاء، مادة للتحسر وللتفوق الإخلاقى، تفوق أخلاقى نراه على الشاشات من محللى الفنادق، ونشطاء مظاهرات الفنادق، ولا أحد يحمل البنادق، أو على الأقل يفعل شيئا يستحق الذكر، باستثناء حالة هؤلاء الأطباء الذين قرروا التخلى عن وهج الشاشات المصاحب للمظاهرات فى عواصم الفنادق وذهبوا إلى غزة من أجل أن يقدموا لأهلها عونا. هؤلاء اختاروا أن يكونوا فى خنادق المقاومة، لا فى فنادق الفضائيات، ولا فى معية المتظاهرين على الشاشات، هؤلاء رجال يستحقون التحية. عرب الفنادق اليوم أكثر عددا وأكثر تطرفا وأعلى صوتا من عرب البنادق أو حتى عرب الخنادق. ظنى أن أهل غزة أنفسهم، هؤلاء الضحايا ممن دفعوا الثمن الأكبر، ومعهم معظم الناس العاديين لا يعرفون الفنادق، ويكرهون العنف ويكرهون البنادق ويريدون أن يعيشوا فى سلام فى بيوتهم لا أن يحاصروا تحت النيران فيجبروا على الحياة فى ظلمات الخنادق.