«محمد البنديرى» الرجل العجوز الذى حفرت السنوات ملامح وجهه شاهد عيان على بدو سيناء الذين ينتمى إليهم، ورغم عمره الذى يتجاوز الثمانين فإن ذاكرته من حديد، افترشت معه على جزء من أرضه التى يزرعها شوية فجل وحبة خيار وبعض الطماطم وعلى حد قوله عايش شو بدنا نعمل نحنا قدمنا الكثير لمصر والمسؤولون لا يسمعون. فى حرب 67 أتذكر جيداً أول يوم دخل اليهود عندنا، كنا قاعدين على البحر أنا ومصطفى وربيع، وشوية ولمحت جنود داخلين البلد قلت لهم يا أولاد دول يهود، رد علىَّ أصحابى لأ دول من عندنا يعنى مصريين، قمت مشيت وسبتهم بعدها بنصف ساعة ضربهم اليهود بالنار ولما رجعت لقيت رؤوسهم طايرة، فحرت لهم ودفنتهم مع المغرب كبس اليهود على البلد كلها واللى طلعوا من بيوتهم أخذوهم أسرى، ظليت فى البيت 8 أيام ما نطلعش إلا فى المخبأ، ولما طلعنا لقينا جثث كتيرة وكانت عساكرنا من غير هدوم وأجزاء أجسادهم فى كل مكان.. كنا بندفن اللى نقدر عليه وفى منطقة «جرادة» لقينا 84 عسكرى مصرى مرميين على جنب واللى طخاهم «ولية» امرأة ومعاها اتنين كمان.. دفنتهم أنا وأبويا وأختى وعرفنا إنها «ولية» من الأثر بتاعها. أنا فاكر كويس اسم واحد «أحمد محمد جبارة» من العريش فى سلاح الحدود ده الوحيد اللى عثرنا على بطاقته مرمية جنبه وعند منطقة «المينا» لقينا سليمان اللى ضربه اليهود لكنه ظل عايش وزحف حوالى 12 كيلو وكان ممنوع نوديه أى مستشفى لأن اليهود كانوا هيموتوه، جبنا له الحاج عويضة، ولع النار وحطينا فيها مسمار سكة حديد ودورنا على الطلقة ومسكناها «بالماشة» وبعدين كويناه بالمسمار وعالجناه. إحنا أنقذنا جنودنا المصريين وكنا بنعطيهم عيش ومياه على قد حالنا فى حين إن الآية اتقلبت مش عارف ليه وبسمع كلام بيجرحنى وبيوجع قلبى لما بيقولوا إن البدو كانوا بيأخذوا عساكر اليهود علشان يسقوهم شربة مياه. حرام عليهم الناس اللى ما عندهاش ضمير وبتظلمنا.. إحنا انكسرنا فى 67 لأننا جزء من مصر وفرحنا فى 73، أنا فاكر كنت قاعد مع الناس فى الواحة وكانت الدنيا رمضان وكنا شايفين الطيران وفجأة لقينا الناس بتزغرد وتقول دخلنا وعبرنا.. عملوها الرجالة. فى الليل قاسينا والدنيا اتملت يهود ومنعونا من الخروج لكن كنا فرحانين ونسوانا كانت بتزغرد، خاصة لما كنا بنسمع أصواتهم بيولولوا زى النسوان. لما غار الاحتلال ورجعت سينا لينا قلنا الدنيا هتروق وهتحلى وهناخد أبسط حقوقنا اللى ما خدنهاش، إحنا من يوم ما اتولدنا واحنا عايشين فى ظروف الاحتلال، الأول كان التركى وبعدين الإنجليزى ثم الصهيونى.. ماشفناش يوم حلو وجاهدنا ودافعنا عن سيناء ورفضنا العروض المغرية من كل أنواع الاحتلال علشان يستميلونا.. ودلوقت إحنا برضه ما أخدناش حاجة.. غير إن إحنا لسه عايشين فى الفقر والجهل، وحتى مش عاوزين يملكونا أراضينا ويقولوا لنا حق الانتفاع لمدة 99 سنة، طيب إزاى إنت تدينى حق انتفاع لأرضى اللى من يوم ما اتولدت وأنا أعرف أنها ورث لى من آبائى وأجدادى.. ويقبضوا على أولادنا ويعذبوهم ويظلموهم ويخلوهم يهربوا لعيشة الجبل.. وكمان يقولوا علينا خونة ومش وطنيين. مش عارف أقول حاجة غير حسبى الله ونعم الوكيل.. لم أملك سوى الصمت والتساؤل مع هذا الرجل العجوز.. ليه؟!