«رافيا».. يا ريحة الحبايب والوطن الغايب..!! ما إن تطأ بقدميك أرضها إلا وتضبط جسدك متلبساً بالقشعريرة والانتفاض، ولا محالة سيتسرب إليك إحساس بالشجن والحزن وربما أيضاً الانكسار..!! منازلها الصغيرة تحوى أسراراً وحواريها الضيقة تطوى غموضاً، وهدوؤها يعطيك انطباعاً بأن عاصفة عاتية آتية فى الطريق. توجس وريبة، خوف وصمت، قلق وذهول. هكذا استقبلتنا ملامح وجوه ساكنى مدينة «رفح» منذ اللحظة الأولى التى قررت فيها القيام برحلتى إلى شمال سيناء وأنا مشتاقة لزيارة هذه المدينة تحديداً، بل انتابتنى سعادة طفولية عندما قررنا أن ننطلق إليها بعد انتهائنا من زيارة مدينة «الشيخ زويد» ورغم تحذيرات الكثيرين لنا من التواجد الأمنى الكثيف والكمائن المشددة التى قد تحول دون وصولنا إليها.. إلا أننا سنركب الصعاب ونتحدى كل من يقف فى وجوهنا «فمدينة رفح» صحيح إنها حدودية وخطيرة ومهمة استراتيجياً، إلا أنه ليس من حق أى أحد على وجه الأرض أن يمنعنا من الدخول إلى قطعة من أرض مصر. سألت نفسى طوال الطريق إلى «رفح» لماذا هذه السعادة الغامرة ولماذا هذا الاشتياق والحنين؟! سرعان ما فسرت حالتى مجيبة على نفسى ربما هى المكان الوحيد المناسب الذى سيسهم فى غسل همومى وربما تهدئة أعصابى بعد أن قامت بحرقها «صخرة ديان» فى مدينة الشيخ زويد وربما بل الأكيد أننى من خلال مدينة «رفح» سوف أستطيع أن أرى بالعين المجردة وعلى بعد أمتار وليس كيلومترات «وطننا الضائع» «ين القلب والروح» فلسطين وكيف لا أراها وأنا فى المدينة الحدودية التى لا يفصلها عن «رفح فلسطين» سوى علامات الحدود بيننا وبينها.. وكيف لا أشعر بها وسأقف عند منفذ رفح البرى بين مصر وقطاع غزة، أحد الثوابت التاريخية المهمة الفاصلة بين الحدود بين الدولتين، لا أنكر «أخذتنى الجلالة» كما يقولون ورحت أرسم الأحلام والطموحات بالوقوف عند بوابة صلاح الدين وأمام السلك الشائك.. بل وصلت الأمنيات أيضاً إلى الصدفة والقدر الذى يجعل معبر رفح مفتوحاً أمام الفلسطينيين المحاصرين، يا سلام وقتها سأدخل وزميلى المصور وأقوم بعمل ملفات كاملة من «أرض غزة» وألتقى بفلان وعلان.. وربما أتعرض أيضاً للقصف لم تطل أحلامى وشطحاتى المجنونة وكما يقال «وقعت على جدور رقبتى» وانهارت أحلامى وتحطمت تحطيماً ما إن دخلت سيارتنا إلى مدينة رفح!! كم من سيارات الأمن لا يعد ولا يحصى.. وكم من رتب الضباط لا يوصف ولا ينتهى.. وجحظت العيون وذهلت واصفرت الوجوه ما إن دخلت سيارتنا قلب المدينة أغلقت المحال التجارية القليلة التى كانت مفتوحة لا أعرف لماذا؟! ووقف المارة يتابعون هؤلاء الغرب الذين اقتحموا مدينتهم.. توجس وريبة على الوجوه وقلق وخوف فى العيون.. للحظة أحسست أننا كائنات غريبة من العالم الآخر وأن سيارتنا هذه ما هى إلا مركبة فضائية، هبطت على كوكب الأرض! سألت مرافقى «علاء الكاشف».. هو فيه إيه؟! ابتسم هادئاً.. هذا متوقع، بالتأكيد هذه إجراءات أمنية قلت.. أيوه يعنى علشان دخولنا ولا إيه؟ ما إن دخلنا بداية الشارع إلا وتأهب العساكر فى سيارات الشرطة الضخمة وبدأ الواحد تلو الآخر ينزل من السيارة لم نلتفت بالعكس تجاذبنا أطراف الحديث وتعالت ضحكاتنا.. ها أنا أقترب من السلك.. ها هى عيناى تراها.. بيوتها الصغيرة المنكسرة لا أعرف لماذا رأيتها وقد اتشحت بالسواد.. أستطيع أن أشم رائحتها من على بعد.. هواؤها مختلف فلقد استنشقته عندما دخلت أرضها منذ أربعة شهور.. ها أنا أسمع أنين الأطفال وصراخ الأرامل وأمهات الشهداء.. ها هو صوت بطونهم صارخة مستغيثة من الجوع.. فالحصار أشد من القتل!! فوجئت بما يقرب من 10 سيارات أمن بداخلها الرجال العتاولة، فجأة توقفت كل السيارات بجانبنا.. ليجىء صوت أجش متسائلاً ■ إنتم جايين هنا ليه؟ رد حسام قائلاً.. إحنا مصريين. ■ أيوه ما احنا عارفين بس إيه إللى جابكم هنا؟ قال حسام جايين نشترى شوية توابل. ضحك ضحكة مستفزة وبأسلوب ساخر: بقى سايبين القاهرة بحالها وجايين تشتروا بهارات من هنا؟ ■ إنتم شغالين إيه؟! قلنا له صحفيين من «المصرى اليوم». ■ طيب.. ياريت تمشوا على طول لو سمحتم. ليه يعنى فيه حاجة؟ ■ هما كلمتين اشتروا الفلفل الأسود واتفضلوا.. تركتنا السيارات ولم تمش بالطبع.. فقصرنا الشر وغادرنا المنطقة ولكن ليس مدينة رفح بأكملها..!! لا يسألنى أحد كيف قابلت بعضاً من ساكنى «رفح» من المصريين والفلسطينيين.. ولا يسألنى أحد عن أسمائهم.. ولكن فقط إسمعوا معى ما قالوه.. ■ سألت الشاب المصرى الذى يتجاوز عمره الثلاثينيات عن حالة القلق المبالغ فيها فى مدنية رفح؟ أجابنى.. المشاكل الدائرة بين البدو والشرطة الآن وحالة القلق التى تسيطر على سيناء بأكملها بشكل عام ورفح بشكل خاص لأنها مدينة «الأنفاق» التى يقوم من خلالها البدو بتهريب البضائع من السولار والبنزين والمؤن الغذائية وأيضاً السلاح إلى أهل غزة.. يوجد حوالى 138 نفقاً إن لم يكن أكثر وهو أمر ليس بسرى فلو فتحت النت ستجدين الأنفاق بالصور والمعلومات.. والحكومة تعرف كل شىء ولكن هذه الأيام تحاول أن تضيق المسألة ليس على الفلسطينيين ولكن على البدو لأنهم بيهربوا وبالتأكيد بيكسبوا وهى مش عاوزة يبقى معاهم فلوس. ■ امرأة فلسطينية اقتحمت الحوار قائلة: أنا عايشة هنا منذ سنوات ومتزوجة من مصرى ولدى توأمان.. وأقاربى فى رفح أعمامى وأخوالى لما الحدود بتفتح بشوفهم، بس أنا زعلانة أوى من الكلام الفاضى اللى اتقال لما الفلسطينيين كسروا سور الحدود ودخلوا.. هم طبعاً غلط لأن ده فيه تعدى على الدولة المصرية ولكن فوجئنا بأن فيه ناس قالت إن الفلسطينيين عاوزين يحتلوا مصر وياخدوا سيناء لأنهم رفعوا العلم الفلسطينى على المبانى فى رفح والعريش، ده كلام مش صحيح.. اللى حصل إن الناس دخلت وكانوا بالألوفات ما كنتيش تقدرى تحطى رجلك فى رفح، الناس دخلت علشان يشتروا العيش وأنابيب البوتاجاز ومستلزماتهم الحياتية ماكانوش فايقين يرفعوا علم.. وبعدين الناس فى إيه وهم فى إيه؟! دى ناس حقوقها مغتصبة ومحتلة وحركة حماس مبهدلاهم والطيران الإسرائيلى بيموتهم كل يوم.. اللى اتقال ده مش صحيح وكذب وحرام وهدفه إنه يقلب المصريين على الفلسطينيين علشان ما يتعاطفوش معاهم. ■ رجل مصرى عجوز تجاوز الستين من العمر رد عليها قائلاً: لا يوجد أحد على وجه الأرض ممكن له أن يصطاد فى المياه العكرة ويفسد علاقة الشعب المصرى بالفلسطينى.. وما حدث من الفلسطينيين أمر طبيعى لأنك لو عندك قط وقمت بحبسه فى غرفة ولا تقدمين له طعامه ماذا سيفعل؟! سيكسر الباب حتى يحصل على الطعام.. وهذا ما حدث.. ثم إن «رفح» شهدت رواجاً اقتصادياً غير عادى فى فترة دخول الفلسطينيين. الناس اشترت بمليارات. ■ شاب آخر عمره 18 عاماً قال لما انفتحت الحدود رحت غزة علشان أسمع واشوف واتفرج.. صدقينى كان نفسى أقعد وأحارب معاهم.. الناس هناك رغم القهر والحصار اللاإنسانى إلا أن روحهم عالية جداً وعندهم أمل فى بكره اللى هيشوفوا فيه فلسطين عربية ما فيش حد رجعنى غير أمى لأنها وحيدة ومن غيرى ممكن تموت ساعتها بس مش هارحم نفسى!! هذه الحوارات البسيطة هى التى استطعت أن أجريها فى وسط جو يخيم عليه القلق والتوتر.. كان يجب أن نغادر «مدينة رفح» وبسرعة حتى لا نتعرض لمشكلات أمنية، خاصة أن الأمن كان فى مهمة خاصة جداً، لإغلاق بعض الأنفاق والقبض على البدو الذين يهربون المؤن إلى شعب غزة.