فى المناسبات الحزينة، يجد الناس أنهم مدعوون إلى شرب القهوة سادة، وليس معروفاً إلى الآن ما هى العلاقة المباشرة، أو غير المباشرة، بين أن يكون المرء منا فى مناسبة غير سارة، سواء كانت خاصة أو عامة، وبين أن يفضل أن تكون القهوة سادة.. وليس معروفاً أيضاً على وجه الدقة ما إذا كان قيام الواحد بيننا بإضافة بعض السكر إلى فنجان القهوة، سوف يقلل من إحساسه بالمناسبة، وسوف يفسد معناها عليه أم لا؟... ولكن الذى نعرفه إلى هذه اللحظة أن هناك ارتباطاً حتمياً بين أى مناسبة من هذا النوع وبين أن تكون قهوتك سادة تماماً لا وجود ولا أثر للسكر فيها!... ولم يجرؤ أحد بعد على أن يذهب للعزاء فى أى مناسبة ثم يطلب القهوة زيادة أو حتى مضبوطة، إنما لابد أن تكون سادة.. لماذا على وجه الدقة؟!.. هذا موضوع ليس واضحاً وليس مفهوماً، وإن كنا جميعاً نتفهمه بطبيعة الحال.. وفارق كبير بالطبع بين أن تفهم أى مسألة وبين أن تتفهمها! ولا أحد على يقين مما إذا كان المخرج خالد جلال الذى يقدم حالياً مسرحية «قهوة سادة» على مسرح مركز الإبداع الفنى فى دار الأوبرا، كان يقرأ الغيب أم لا... لا أحد على يقين مما إذا كان خالد جلال، حين قرر تقديم العرض قبل عدة أسابيع وربما شهور كان يعرف أن الأيام سوف تأتى كما هى الآن بما يجعل العرض فى محله تماماً، وبما يجعل نبوءة صاحبه فى موضعها بالضبط، وبما يجعل العرض كله بفكرته وإيحاءاته وإيماءاته فى التوقيت الصحيح وفى اللحظة المناسبة وفى الأيام الموائمة!.. لا أحد يعرف! صحيح أن المخرج، من خلال النص المكتوب مسبقاً ومن خلال باقى عناصر العرض كله، يدعوك كمشاهد إلى أن تشرب أكثر من قهوة سادة على أشياء كثيرة فى حياتنا جميعاً، وهى أشياء لا تخصك وحدك، ولا تخصنى وحدى، ولا تخص أى شخص بمفرده، ولكنها تخصنا جميعاً من حيث نحن مجتمع ممتد، ومن حيث نحن بلد يترامى فى أطرافه وحدوده! المخرج ومعه أبطال العرض، وجميعهم من الشباب المبدع والموهوب يدعون كل مشاهد إلى أن يتخيل طوال المسرحية أن فى يده فنجاناً ممتلئاً بالقهوة السادة، ثم يظل يرتشف منه على مدى ساعة كاملة أو أكثر قليلاً... فالمهم ألا يفارق الفنجان يدك، والمهم أن يكون حاضراً طول الوقت بمعناه قبل أن يكون مستقراً فى يدك بمبناه... الفنجان على مدى العرض كله ليس مجرد وعاء صغير سوف يكون فى يدك وسوف يتحرك ما بين فمك ويدك بلا توقف.. لا.. ليس هذا هو المقصود على وجه التحديد.. فالمقصود أنك سوف تتابع فى العرض بعينيك من مشهد إلى آخر، وأنت فى مقعدك، ما يجعل مزاج القهوة السادة هو المسيطر على عقلك وخيالك معاً، والمقصود أيضاً أن كل حركة على المسرح سوف تجعلك تقارن بين ما كان وبين ما هو كائن... سوف تجعلك تفتقد أشياء جميلة، سوف تجعلك شديد الحنين إلى أشياء لم تعد قائمة... سوف تجعلك تتلفت حولك لترى ما إذا كان بعض ما كان جميلاً فى حياتنا لايزال قائماً أم أنه قد اختفى وانمحى؟! سوف تظل فى كل دقيقة شبه غائب عن الوعى، ليس لأن العرض يتعمد تغييب مشاهديه عن هذا الوعى، لا سمح الله، وإنما لأنك سوف تظل سارحاً هائماً طائراً بجناحين فى سماء القاعة بينما قدماك على الأرض.. وفى كل الحالات سوف تمتد يدك دون إرادة منك إلى فنجان القهوة المتخيل إلى جوارك، ثم تقذف بما فيه من بقية فى فمك، لعل القهوة - وهى سادة - تسعفك وتداوى بعض أحزانك على ما ترى وأرى ويرى! لعلها تبدد بعضاً من هذا الأسى!