بالأمس شيعوا جنازة الرئيس الغينى «لانسانا - كونتى»، الذى استولى على الحكم ب«انقلاب عسكرى» صباح وفاة الرئيس أحمد سيكو - تورى، فى أبريل 84. «لانسانا - كونتى» تعلم بالمدارس الإسلامية باعتباره مسلماً.. ثم دخل العسكرية وتدرب بساحل العاج، ليلتحق بالجيش الفرنسى، ويخدم فى صفوفه ضد المناضلين بالجزائر فى حرب الاستقلال عن فرنسا عام 57. عندما قرأت نبأ وفاته بالأمس، فتحت أجندتى لأقرأ: فى مارس 94 اختارتنى إدارة سوق الRungis بفرنسا مع صاحب عمل آخر من أصل إيطالى للسفر إلى غينيا تلبية لدعوة سفارتهم بباريس، للتعرف على الفرص المتاحة للتصدير لأوروبا، وللاستثمار هناك.. وتلقيت تليفوناً من مساعد السفير للترحيب، وقال: إن عددنا 10 مدعوين من 5 دول أوروبية، وسنتعرف على بعضنا بمطار «شارل ديجول»، وإننا ضيوف على فخامة الرئيس «كونتى». تأشيرة مجاملة.. ونتعرف على بعضنا قبل الإقلاع ثم «نثرثر» حتى وصلنا العاصمة «كوناكرى»، وفوجئنا باستقبال مهيب.. تليفزيون وراديو ومندوبى الصحف، لنخرج من باب الV.I.P تاركين «جوازات السفر» لينهوا الإجراءات، ويتعرفوا على الحقائب! 4 سيارات سوداء «رئاسية»، تسبقها 4 موتوسيكلات «بسارينة من إياهم».. وعلى جانبى الطريق إلى «قصر الرئاسة» اصطفت الجماهير بملابسها الممزقة، وهياكلها العظمية، «تهلل»، و«تصفق»، و«تزغرد»، وكعادتى السيئة بدأت «أمصمص شفتى»، وأتحسر مع زميلى الإيطالى الأصل على شعوب أفريقيا السوداء، المقهورة والمستسلمة، واتفقنا على أن «الغرب» عموماً، وفرنسا خصوصاً هم «المتهمون»، بدعمهم، وتأييدهم «للديكتاتوريين» بأفريقيا! وصلنا «دار الضيافة»، الملحقة «بالقصر الجمهورى»، والمطلة على المحيط الأطلنطى، والكهرباء مقطوعة، وحرارة التليفون تحت الصفر، وغرف الدار، والأثاث، والغداء يوحى بتقشف وفقر. مع الغروب، وصلت مدام «هينريت كونتى» حرم الرئيس، وبصحبتها «فتاة»، عرفت منها أنها خريجة حديثة من «السربون»، وعادت لتتولى «عمودية» كوناكرى، «فهى بنت خالة حرم الرئيس».. جلسنا جميعاً بالشرفة الخارجية لنستقبل ونتعرف على كبار موظفى الدولة، على يسارى «عجوز» قال: إنه مدير الجمارك، وعلى يمينى «فحل» طول بعرض، وقفا نصف متر، قال «برضه»: إنه مدير الجمارك، وقبل أن أندهش أو أسأل لماذا 2 مدير جمارك، همس فى أذنى: إنه مدير جمارك فخامة الرئيس، فالرئيس يمتلك عدة شركات مسؤولة عن استيراد المواد الأولية والغذاء للشعب! الله.. الله.. حلاوتك «يا ريس»!.. وشوية وعزمتنا «العمدة» على شاى بمنزلها، ومنزلها ما شاء الله، على فدانين بقلب العاصمة وعلى البحر، ترى بالمدخل الواسع معرض سيارات خاصة: فيرارى.. جاجوار.. وحتى الشيفورليه الاسبور المكشوفة القديمة بتاع مارلين مونرو! وقبل أن يأتى «الشاى» دخل علينا رجل فى الستينيات بملامح أوروبية، وملابسه فى غاية الشياكة، والأناقة، وبرفقته ملكة جمال، وبمجرد أن نطقوا اسمه VARAZI، انتفض زميلى الإيطالى الأصل، هامساً لى إن هذا ال VARAZI ملياردير إيطالى هارب من العدالة، ويعيش فى سويسرا، وبدأ ينقل لى تخوفاته من وجود هذا الملياردير معنا فى هذا المكان. وبنهاية السهرة بدأت «الأمور» تتكشف عندما وصل مدير أحد البنوك الفرنسية ب«موناكو» وهو فرنسى من أصل لبنانى، وشقيقته تعيش بمصر، فلازمته طريق العودة لدار الضيافة، ليحكى لى بالعربية، أنه حضر خصيصاً لتوقيع «حرم الرئيس» على أوراق فتح حساب باسمها، ليتم تحويل مبلغ 5 ملايين دولار عن طريق VARAZI بسويسرا، مقابل تعيينه «قنصلاً فخرياً» لغينيا فى سويسرا، وبهذا يحصل على جواز سفر دبلوماسى غينى. من الفجر طلبت سيارة رئاسية متوجها إلى «السفارة المصرية» بكوناكرى، واستقبلنى السفير، واسمه «أحمس»، حكيت له ما سمعت، فزادنى من الشعر أبياتاً عن الفساد المرعب على كل المستويات، وطمأننى بالحصول على «جواز سفر مؤقت» إذا لم يعيدوا لى «جوازى» الذى تركته معهم بالمطار، ولكن بعد الاتصال بالجوازات بمصر. ظهراً كنا بمكتب الرئيس كونتى الواقع فوق مبنى البرلمان لنشرب «علب» عصير الأناناس (مفيش كوبايات) ولا حتى «شاليموهات»، ونزلنا للأرضى بقاعة المجلس، لنجد الوزراء بملابسهم المزركشة، يعقدون جلسة تحية لنا، وهم لا يعلمون أننا «كومبارس» أتوا بنا للتغطية على عملية فساد رئاسى باسم الاستثمار والتصدير! بعد 72 ساعة من مقابلات «الوزراء»، كررت طلب إعادة جواز سفرى، وهددت أحدهم بأننى سأبلغ السفير الفرنسى، الذى أحمل جواز سفر بلاده، فأعادوا جوازاتنا، لنتجه مع زميلى الإيطالى الأصل ونستقل أول طائرة لباريس. فى مطار «كوناكرى» اشتريت جريدة أسبوعية غينية ناطقة بالفرنسية مازلت أحتفظ بها مع باقى الصور.. وكان المانشيت يتحدث عنا قائلاً: «المنقذون للاقتصاد الغينى».. مستثمرون من أوروبا فى كل التخصصات سوف يفتتحون مشروعات عملاقة.. و.. و.. وسألت نفسى وقتها: هل يمكن خداع الشعوب طوال الوقت؟ وجاءت الإجابة بعد 14 سنة.. «نعم». فالرئيس «كونتى» قام بانقلاب واستولى على الحكم صباح وفاة سابقه، وها هو يموت بالأمس، واليوم تستولى على الحكم مجموعة انقلابية جديدة، وكل مجموعة تحكم وتتحكم لربع قرن باسم القضاء على الفساد، وباسم الديمقراطية، وهكذا دواليك. french_group@hotmail