أكتبُ إليكم فى فلسطين. نقفُ على أرضِ القُدس الشريفة. فى باحة المسجد الأقصى، وأمامَنا صخرةُ المِعراج المُشيّدُ فوقها ثمانيةُ حوائطَ تحملُ قبّةَ الصخرة. بوسعى أن أمدَّ يدى فألمسَ حائطَ البراق، الذى عقلَ الرسولُ إليه بُراقَه حينما أُسرى به ليلا. ها نحن نرفعُ علم فلسطين واسعا، حتى ليكادُ يظلّلُ مساحةً منبسطة من النهر إلى البحر، عاليًا؛ حتى ليكاد يراه كلُّ من يقفُ على أرضٍ تمتدُّ من المحيط إلى الخليج. ننظرُ يمنةً ويسرةً ولا نشاهدُ إلا وجوهًا عربيةً كريمة. لم يعد من أثرٍ لأنفٍ معقوفٍ ، وعيونٍ داهية، وقبّعاتٍ سوداءَ عاليةٍ فوق رؤوس حاخامات، ولا كيبا يعتمرُها مستوطنون يحملون نجمة مسدّسة. أخيرا صَفَا ترابُها لنا، بعد ستين عاما كدنا نفقد خلالها الأملَ لولا صوت فيروز الذى لم يكفّ يوما عن الترداد فى أعماقنا: «القدسُ لنا». أنا أكذبُ؟ نعم، ربما. لكنَّ شيئا من الكذب النبيل لن يُفسدَ العالم. فكلُّ المستحيلات بدأت حُلُما وكَذِبًا! حتى المخترعاتُ هكذا بدأت. وفلسطينُ ليست اختراعا، بل واقعٌ وحقٌّ ووطنٌ وشعبٌ ، وحُلم لا نطرحه. ربما كذبتُ فى رسم الصورة الجميلة السابقة، لكننى لم أكذب فيما يخصُّ مشاعرى. فقد شعرتُ ، رغم أننى فى الكويت، أننى بالفعل أقفُ على تراب فلسطين النقىّ من خُطا صهيون، ومن اقتتال فصائله. هكذا شاء المجلسُ الوطنىّ للثقافة والفنون أن تدشّنَ الكويتُ الحدثَ الجللَ الذى سيحلُّ بعد أيام: «القدسُ عاصمةُ الثقافة العربية 2009». قرر د. بدر الرفاعىّ، الأمين العام لمهرجان القُرين، أن يفتتحَ فعالياتِ المهرجان، فى دورته الخامسة عشرة، بأيام ثقافية فلسطينية. فجاء شعراءُ فلسطينيون: محمد لافى، حلمى الريشة، عبدالسلام العطارى، وحضرتْ لوحاتٌ متوهجةٌ بحُمرة أرضٍ مروية بماء شهدائها، رسمتها ريشةٌ فلسطينية بارعة تخصُّ الفنان حسنى رضوان. حضر فولكلورُ فلسطينَ بعباءاتِ الصبايا الفاتنات المطرزةِ بخيوطٍ حمراءَ بلون دماء الراحلين، وحضرت دبكةُ فلسطين بإيقاعها الشهير الذى يهزُّ قلبَ كلِّ عربىّ. فى رقصات فاتنة حملت عناوينَ: «وادى التفاح، حيفا بيروت، أفراح فلسطينية، مرج بن عامر، طلّة ورا طلّة». وقبل كلِّ هذا حضرَ علمُ فلسطين يحمله أطفالٌ كويتيون صبوحو الوجه واثقون فى غد أجمل. كما حضر وجهُ فلسطينَ ذاتِها فى ملامح صبيةٍ بهيّةِ الجمال اسمها اعتدال إسماعيل. حتى الكعكةُ التى كُتب عليها «أيامٌ ثقافية فلسطينية فى الكويت» كان لها طعمُ تراب فلسطين بقمحها وحليبها وزعترها وكرزها. لكلِّ ذلك لم أكذب إلا قليلا حينما قلتُ : «هنا فلسطين!». هل سيقدرُ مثقفو العرب أن يزوروا القدسَ حينما تُنَصَّبُ بعد أيام عاصمةً للثقافة العربية، خاصةً بعد تصعيد محاولات تهويد القدس؟(!) أم سيحذو القائمون على الثقافة فى كل بلاد العرب حذوَ بدر الرفاعى فى مبادرته الرفيعة فيستضيفون مثقفى وفنانى ومبدعى فلسطين ليحتفلوا بعامهم على أرض الوطن الأكبر، مادام وطنُهم مازال مُحتلا؟ أرجو ذلك. فالوطن شِقّان. شقٌّ مادىّ هو الأرض، وشقٌّ معنوىُّ نحمله فى قلوبنا. ولئن كان الشقُّ الأول مُغتصبا لم يزل، فلا أحدَ فى الكون بوسعه اغتصاب القلب. فثمة فلسطينُ فى قلبِ كلِّ عربىّ، بعدسها وفومها وبصلِها وقثائها، لا تموت. تحية لهؤلاء الذين يقولون لبعضهم البعض قبل أن يذهبوا إلى فِراشهم: «تصبحون على وطن!» [email protected]