«للقدس بهاء.. باق».. غنت لها فيروز، فتركت فى نفوس السامعين صورة تخيلية عنها تشع نوراً وبهاءً وعندما كتب عنها خالد عزب «عمارة المسجد الأقصى» ترك وصفاً دقيقاً لملامحه التى تعكس حضارة وقدسية دائمة تأبى أن تنهار أمام عدوان مستمر لتظل مدلولاً رمزياً على حضارة وعراقة شعب صامد كصموده. فى الزاوية الجنوبية الشرقية من مدينة القدس، أعلى جبل الموريا وضع ثانى مسجد على الأرض داخل الحرم القدسى الشريف الذى يشغل مساحة 260م2 ويضم عدداً كبيراً من المنشآت المعمارية الإسلامية والأسبلة والقباب والمآذن والمنابر والمحاريب، بالإضافة إلى خمسة عشر باباً فتحت فى السور المحيط به، ليكشف كل باب عن تحفة معمارية وتاريخية وإسلامية بديعة. والمسجد الأقصى بالإضافة لما له من قدسية دينية متفردة عند كل مسلم فهو فى مقدمة الآثار الإسلامية، التى تتفرد بإبداع فى الزخرفة والتنسيق تجمع بين الحضارة الإسلامية القديمة والمدنية العربية وتترك فى نفس الزائر ذكرى حزينة وشجنا عظيما يظل يرثى حاله ومآل وما سيؤول إليه المسجد الذى يتمتع بالفخامة والفن والعمارة، تجعله فى مصاف معجزات العمارة الإسلامية، مر بظروف مختلفة منذ أمر الخليفة عمر بن الخطاب ببنائه فى موقعه القديم بعد فتح بيت المقدس، ثم أعاد عبدالملك بن مروان بناء المسجد فى أفخم صورة بهدف أن يصبح أفخم من مسجد دمشق، لقربه من كنيسة القيامة، وما لها من قيمة تاريخية ودينية مهمة، وصنع أبوابه وقتها من الذهب والفضة، التى سكت بعد ذلك دنانير ودراهم أنفق منها على تعمير المسجد وإصلاحه إلا أن هذا المبنى الفخم العريق تحول بعد استيلاء الصليبيين على القدس إلى قسمين، الأول أصبح كنيسة والثانى مسكنا لفرسان الهيكل ومستودعًا لذخائرهم، ثم استرد صلاح الدين الأيوبى بيت المقدس ليعيد إصلاح ما أفسده الصليبيون فتصبح قبته العالية المصفحة لوحة جميلة تزينها الفسيفساء على يمين المحراب وضع منبر خشبى مطعم بالعاج واللؤلؤ ووراءه أثر قدم السيد المسيح وفى جانبه الجنوبى محراب زكريا، الذى يعد تذكاراً لإستشهاده بين الهيكل والمذبح. يبلغ طول المسجد الأقصى 80 متراً وعرضه 55 متراً، ويوجد تحته بناء أرضى يمتد من الشمال إلى الجنوب ويعرف بالأقصى القديم وهو عبارة عن ممر أو دهليز واسع طويل يقوم على جدران متينه ويتألف من سلسلة عقود متمركزة على أعمدة تمتد من أول البناء إلى آخره، من داخل المسجد تبدو الصورة وكأن أعمدة المسجد هى التى تحمل سقفه البديع وترفع قواعده، والأعمدة التى تعلوها تيجان غاية فى الجمال والإبداع تأخذ العين إلى صفين من الشبابيك تفتح نحو الرواقين الجانبيين. على بعد ستة أمتار شمالى المسجد باتجاه الشرق من مدخل الرواق الأوسط يوجد مدخل لقبو تحت قسم من المسجد الأقصى، ويبلغ ارتفاع القبة الوسطى 21 متراً تقريباً وداخله صحن قائم على أعمدة ترتفع 16 متراً، وعلى الرغم من هذا الجهد الواضح فى إخراج الأقصى فى أبهى صورة فإنه عابه ضعف الأساسات والسدادات الخشبية الرابطة للأقواس، الموضوعة فوق التيجان القديمة، مما أدى إلى انحراف بعضها وانكباسه، الأمر الذى أثر على المسجد بأكمله فعلى مر الأجيال بدأ الخراب يطرأ على الأقصى. ويعتقد الكثيرون أن قبة الصخرة والمسجد الأقصى هما أهم ما يميز الحرم القدسى الشريف إلا أن وصف الحرم بأكمله يدل على أن المكان تسيطر عليه روح القدسية ويعمر بالآثار التاريخية، التى لا تقل قيمة عن المسجد والقبة، فعلى شكل عقد حجرى مدبب يظهر باب الأسباط الذى يعد أول بوابات الحرم القدسى من جهة الشمال، ويؤدى إلى ردهة مغطاة بقبو فتقاطع مع الحرم بعقد مماثل مع العقد الخارجى. للباب مئذنة تحمل اسم الأسباط أيضاً، بالإضافة إلى أنها تعرف بالمئذنة الصلاحية أو مئذنة بنى إسرائيل، وتتكون من بدن أسطوانى حجرى مقام على قاعدة مربعة لها مدخل جنوبى متوج بصفوف من المقرنصات الحجرية وتنتهى بشرفة مؤذن مستديرة مغطاة بقبة ضحلة. باب الحطة هو ثانى الأبواب التى توجد على سور الحرم من الشمال وهو من أقدم الأبواب، وأشار أحد الرحالة إلى أنه الباب الذى دخل منه بنو إسرائيل إلى الحرم بناء على أمر من الله، الباب له مدخل حجرى شاهق الارتفاع معقود بعقد مدبب، وعلى جانبيه مكسلتان حجريتان، ويغلق على المدخل باب ذو مصراعين من الخشب، أما الباب الذى دخل منه الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس فيسمى باب العتم ويعرف كذلك بباب شرف الأنبياء، تليه إلى الركن الشمالى الغربى مئذنة الغوانمة ذات القاعدة الحجرية. ينحرف السور باتجاه الغرب فيقع باب الغوانمة أو باب الخليل أو باب الوليد كما يطلق عليه ويؤدى هذا الباب إلى مدخل دهليز مستطيل مغطى بقبو طولى ينتهى إلى داخل الحرم الشريف عبر درجات سلم تهبط إليه، يليه باب الناظر الذى يرجع بناؤه إلى فترة سابقة للعهد الأيوبى، وهو باب ضخم محكم البنيان، ويتشابه فى تصميمه مع أغلب أبواب الحرم مثل باب الحديد وباب القطانين، الذى يعد من أغنى الأبواب بالعناصر المعمارية والزخرفية. باب المطهرة وبابا السلسلة والسكينة هى آخر الأبواب التى توجد على سور الحرم القدسى قبل الباب الذهبى ولعل تصميم سور الحرم بأبوابه ومآذنه يكمل صورة القدسية والجمال التى تسيطر على المكان بالإضافة إلى الأروقة التى كانت تعقد داخلها حلقات العلم، وحائط البراق الذى يمثل الجزء الجنوبى من جدار الحرم والذى وصل إليه الرسول محمد «صلى الله عليه وسلم» فى رحلة الإسراء ويطلق عليه اليهود اسم حائط المبكى ويدعون أنه من بقايا الهيكل الأول الذى بناه سليمان عليه السلام، أما المئذنة الفخرية التى تشبه فى قمتها المآذن المملوكية فهى من أجمل المآذن شكلاً وتصميماً، كذلك سبيل السلطان سليمان والمطهرة وسبيل قايتباى وبركة الردنج وسبيل قاسم باشا وسبيل شعلان. وأبرز معالم المكان وأكثرها روحانية مهد عيسى عليه السلام وهو عبارة عن حوض حجرى أسفل قبة صغيرة تقوم على أربعة أعمدة، وأمامه محراب حجرى بسيط يقال إنه مكان تعبد مريم عليها السلام، أما قبة الصخرة فهى تقع فى قلب الحرم القدسى وهى من أقدم معالم الحضارة الإسلامية، ويقال إن النبى «صلى الله عليه وسلم» أسرى به إليها وعرج منها إلى السماء ليلة الإسراء والمعراج إذ إنها أعلى بقعة فى الحرم القدسى الشريف. الصخرة عبارة عن قمة صخرية بارزة أعلى جبل «ألموريا» وهى مبنية فوق صخرة مقدسة، زخارفها وبريقها يبهر كل من يراها حيث زخرفت بالفسيفساء لتعطى مثالاً يصل لحد الكمال والروعة فى التصميم. الحرم القدسى الشريف يبدو من الداخل والخارج كأنه يجسد حكاية شعب توافد عليه الأنبياء وتركوا ذكراهم وآثارهم فيه لتبقى خالدة على مر العصور وتبارك الشعب الساكن حول المكان والمتوافد عليه من جميع بقاع الأرض.