قبل شهور نشر الكاتب فى هذه المساحة مقالاً حول فكرة المراجعة لدى القوى السياسية المصرية، وكان التحليل أن أحداً منها لم يقم بمراجعة كاملة لماضيه ولأفكاره وممارساته القديمة سوى الجماعة الإسلامية التى قطعت شوطاً طويلاً فى هذا الاتجاه، وتحاول جماعة الجهاد الآن اللحاق بها بطريقتها، وإن ظلت على مسافة بعيدة عنها فيما أنجزته الجماعة الإسلامية من مراجعات. كذلك فقد رأى الكاتب حينها أن بعض تلك القوى السياسية، مثل قطاعات من الناصريين وبعض اليساريين قد قدموا بعض المراجعات النقدية لأفكارهم وممارساتهم القديمة، بينما ظل الإخوان المسلمون والتيار الليبرالى المصرى الوحيد اللذين لم يقدما أى نوع من المراجعات العلنية حتى الآن. وحتى تأخذ الكلمات معانيها الحقيقية، فالمراجعة لا تعنى أبداً أن تترك القوى السياسية التى تقوم بها أفكارها الأساسية أو انحيازاتها الأيديولوجية المحورية، بل إن تتمتع بنظرة نقدية لما تم وما يمكن أن يتم وللأفكار القديمة والحديثة بما يتناسب مع المتغيرات الجديدة، سواء تلك التى ظهرت لكى تضىء صفحات كانت معتمة فى الماضى، أو التى تفتح مسالك وطرقاً مختلفة للتفكير فى التعامل مع الحاضر والمستقبل. ما يمكن أن يطلق عليه مراجعة بالمعنى الدقيق والكامل، وكما أشرنا أيضاً فى مقالات سابقة، هو عملية كبرى تشمل مستويين وعمليتين فى الوقت نفسه: المستوى الفكرى والمستوى العملى، حيث لابد أن تشمل نقد الأفكار وفى الوقت نفسه نقد الممارسات التى ارتبطت بها. كما أنها لابد أن تتم عبر عمليتين متداخلتين: عملية النقد المشار إليها للأفكار والممارسات، وعملية بناء لأفكار جديدة ترتبط بها منظومة ممارسات جديدة أيضاً تقوم عليها. وفى كل الأحوال، فإن عملية المراجعة بمعناها المركب هذا تشمل أحياناً نقداً واضحاً ومباشراً لبعض الشخصيات الرئيسية، أو ممارساتها وأفكارها، التى كانت جزءاً من المنظومة القديمة سواء على المستوى الفكرى أو العملى، وهو ما يمثل أحياناً المهمة الأصعب لمن يقومون بالمراجعة نظراً للأبعاد الشخصية والذاتية التى يتضمنها هذا النوع من النقد. والحقيقة أن القوة المعارضة الأكبر فى البلاد وهى جماعة الإخوان المسلمين، كانت أقل القوى السياسية المصرية ممارسة للمراجعة بالمعانى السابقة خصوصاً ما يتعلق بالجانب النقدى منها.فبالرغم من أن الإخوان قد طوروا بالفعل كثيراً من رؤاهم السياسية القديمة وتمتعوا بقدر واضح من المرونة فى إنجاز هذا التطوير، فإنهم توقفوا بصورة شبه تامة عن توجيه أى نوع من النقد سواء للأفكار التى غيروها أو للممارسات التى تركوها وراءهم بدون رجعة ولم يعودوا إليها أبداً سواء فى الحاضر وعلى الأرجح أيضاً فى المستقبل. وفى هذا السياق يجب الاعتراف بأن المصادر الفكرية الجديدة التى توفرت لحركة الإخوان المسلمين من خارجها فى ظل مرونتها السابق الإشارة إليها قد ساهمت فى تطور عديد من رؤاها وأفكارها ذات العلاقة بالمجال السياسى بصفة خاصة بما جعلنا اليوم أمام صورة شديدة التطور لها تختلف فى عديد من الجوانب والمواقف عما كانت عليه فى سنواتها الخمسين الأولى. فقد حسمت الحركة بصورة فكرية وعملية حركية موقفها من معظم قضايا التطور السياسى الداخلى خاصة القضية الأبرز والمتعلقة بقبول مبادئ ومؤسسات وإجراءات النظام الديمقراطى الحديث، وفى مقدمتها الانتخابات العامة كوسيلة وحيدة للمنافسة والبرلمانات كمؤسسات للتغيير السياسى والاجتماعى والتعدد الحزبى كمؤسسة وآلية للتعبير والنشاط السياسى والتداول السلمى للسلطة كمبدأ حاكم لكل اللعبة السياسية الداخلية. وقد أفاضت مختلف الوثائق الرسمية للحركة والكتابات والدراسات الفردية التى نشرتها قياداتها منذ نهاية الثمانينيات وحتى اليوم فى تأكيد هذه التطورات والتحولات الرئيسية فى رؤية وفكر الجماعة بصور لا تحتمل اللبس فى معظم الأحوال. ومع ذلك فقد ظلت هناك قضايا ملتبسة وغير واضحة لم تحسمها الجماعة بعد فى هذا التطور السياسى الإيجابى، وهى مهمة ومحورية إلى الحد الذى يمكن أن تفرغه من مضمونه لو لم تحسمها بصورة إيجابية وسريعة، وفى مقدمتها الموقف من قضية المساواة والمواطنة لعموم المصريين، من مسلمين وأقباط ونساء، وحقهم جميعاً بدون أى استثناء فى تولى كافة المناصب فى الدولة المصرية بغض النظر عن دينهم أو جنسهم. إلا أن الأمر الأكثر ارتباطاً بعملية المراجعة والذى غاب حقيقة عن ممارسات الإخوان المسلمين خلال تطورهم السياسى المشار إليه هو ذلك المتعلق بالنقد الواضح لأفكار وممارسات الماضى. فالجماعة على المستوى الفكرى كانت تنتقل خلال السنوات الماضية من أفكار قديمة أكثر جموداً وتقليدية، مثل رفض التعدد الحزبى، إلى أخرى جديدة متطورة مناقضة لها، دون أن تبادر بأى صورة بنقد الأفكار القديمة وتوضيح الأخطاء التى احتوتها. أما على المستوى العملى، فقد بدا الأمر أكثر سلبية من جانب الجماعة، حيث لم يعرف عنها بصورة جماعية تنظيمية أو بصور فردية عبر أى من قياداتها أو أعضائها أى نوع من النقد لبعض ممارسات الماضى السلبية على الرغم من حقيقة أن الجماعة لم تعد إليها أبداً. وفى هذا السياق يبدو غريباً أن الجماعة ذات الأعوام التى زادت على الثمانين من العمل السياسى والاجتماعى والدينى المتواصل، تبدو بالنسبة لقياداتها وأعضائها اليوم وكأنها لم ترتكب طوال هذه السنوات أى خطأ أو انحراف يستحق النقد العلنى أمام الناس دون خجل أو حرج. وفى هذا السياق وعلى سبيل المثال يبدو من قراءة كتابات الإخوان المسلمين عن ماضيهم وتأريخهم لأنفسهم أن جميع مرشدى الجماعة المتعاقبين منذ مؤسسها حسن البنا لم يرتكب أى منها أى نوع من الخطأ أو حتى سوء التقدير سواء على المستوى الفكرى أو المستوى العملى. ويمتد الصمت المطبق من داخل الإخوان تجاه مرشديهم إلى جميع قياداتهم فى مختلف مراحل تطورهم، حيث لا نجد أى كتابات لهم من الناحية التاريخية أو السياسية تنتقد فكراً أو فعلاً لأى منهم بصورة علنية واضحة. والحقيقة أن هذا «التهرب» الإخوانى من ممارسة النقد الجاد والبناء لماضى الجماعة وبصفة خاصة لما يمس منه قياداتها، يخرج حتى عن تقاليد الإسلام المعروفة حيث تحفل كتب التراث بمئات الأمثلة لانتقادات جوهرية وجهها الصحابة أنفسهم لصحابة آخرين فضلاً عن أخرى وجهت لبعضهم من تابعين ومن تابعى التابعين. والنقد المطلوب هنا ليس بالطبع نقدا شخصيا لتلك القيادات، بل هو نقد يتعلق بأخطاء ارتكبوها سواء على مستوى التصورات الفكرية أو مستوى الحركة السياسية العملية. ولا يمنع هذا من حقيقة القول بأن هناك همسا يدور بداخل صفوف الإخوان حول بعض من تلك القيادات والموضوعات التى ترتبط بماضى الجماعة، إلا أنه يظل حتى اللحظة همساً شفوياً لم يتحول إلى أصوات عالية يمكن بسهولة لمن هم خارج الجماعة سماعها أو قراءتها بسهولة، ودون تفسير أو تأويل لها. وضمن هذه المسألة الرئيسية الغائبة عن ممارسات الإخوان حالياً يبرز الالتباس الكبير الذى لا يزال يثيره موضع كتابات سيد قطب من فكر وحركة الإخوان المسلمين، وهو المعروف بمساهمته الرئيسية فى إعادة تأسيس المدرسة الجهادية الدينية الحديثة على مستوى العالم بالمشاركة مع مفكرين آخرين من جيله أبرزهم الباكستانى أبو الأعلى المودودى. فلا يزال الإخوان مترددين فى التصريح الواضح بأن الرجل منذ كتابه «فى ظلال القرآن» وحتى كتابه «معالم فى الطريق» لم يعد يمت بصلة حقيقية لمدرسة الإخوان الفكرية، حيث غادرها ليؤسس المدرسة الدينية الجهادية، وإن كانت قيادة الجماعة وعلى رأسها المرشد الثانى حسن الهضيبى قد نشرت ردوداً فكرية شرعية على كل القضايا الرئيسية التى تبناها قطب فى الكتاب المشهور الذى حمل اسم المرشد «دعاة لا قضاة» مع عدم الإشارة فيه مطلقاً إلى اسمه. إن إعلان الجماعة عن حقيقة موقفها من كتابات سيد قطب وأفكاره فى مرحلته الأخيرة الجهادية واحد من المهام الرئيسية التى يجب عليها أن تنجزها بصورة واضحة لا تحتمل اللبس أمام المجتمع المصرى وقواه السياسية، ليس فقط لتوضيح جوهرها المختلف عما كان يدعو إليه، بل وأيضاً لكى تثبت أنها قادرة على ممارسة النقد التاريخى الواضح لبعض ممن كانوا فى أحد الأيام من قياداتها وخرجوا تماماً بعد ذلك من مدرستها الفكرية والسياسية.