(1) من ضمن فوائد الأزمة المالية الحالية، تجاوزا - التى يشهدها العالم - أنها أطلقت النقاش عن كفاءة النظام الاقتصادى المؤسس على اقتصاد السوق و الذى بشرنا به جميعا فى إطار العولمة.. فهاهو الغرب يشهد حوارا ثريا حول دور الدولة وإلى أى مدى تترك الأسواق بلا ضابط.. وهناك من بدأ يفصل بين الرأسمالية والعولمة (راجع فريد زكريا فى العدد السنوى للنيوزويك 2009).. وهناك من يستدعى كينز وجالبريث ويؤكد أهمية رؤيتهما التى تحرص على توفير البعد الاجتماعى فى السياسات الاقتصادية فى مواجهة إطلاق يد السوق. بيد أنه لم يزل الأفندية الجدد الذين بشرونا باقتصاد السوق يتمسكون بسياساتهم، على الرغم من أنه لم يكن اقتصادا إنتاجيا.. بل اقتصاد يميل إلى التوكيلات والسمسرة والسياحة والاعتماد على الريع.. ويبدو أنهم غير مستعدين إلى إعادة النظر فى أى شىء. إنهم «الأفندية».. الذين وصفهم ببراعة شديدة الأديب المبدع العزيز محمد ناجى فى روايته الأخيرة «الأفندى» (روايات الهلال مايو 2008).. الذين يتحكمون فى مصائرنا منذ عقود مع ميلاد أغنية «السح الدح امبو».. إن الأفندية هنا شرائح عدة آمنت بالمرحلة الجديدة وانطلقت فوصلنا إلى ما نحن عليه.. كيف؟ (2) «الأفندى».. إنها عن مصر وما جرى فيها.. فعلى يد الأفندى/الأفندية الذين قرروا أن ينفصلوا عن التاريخ وعما يدور حولهم (فلا تأميم القناة يفرحهم ولا الحروب التى دخلتها مصر تؤرقهم، خاصة أنها بعيدة عنهم) تمت استباحة أشياء كثيرة.. لقد دربوا أنفسهم ألا يهتموا بالآخرين وأن يصنعوا عالمهم الخاص بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة. إنهم «محايدون» بلا قضية، فإذا حدثتهم عن الحزن «لا يحسون معنى الكلمة.فالحدود تلاشت عندهم، الحزن والفرح، الرفض والرضا، يتلقون كل الحالات بحياد».. وإذا حلوا على مجلس يناقش موضوعات سياسية أو ثقافية لا يأبهون بتكوين أى وجهة نظر، يعرفون من المعلومات الحدود التى لا تثير نقاشا أو تجعلهم يتورطون مع أحد. يتركون ذلك إلى ما يخصهم ألا وهو كيف يمكن جمع المال بأى طريقة، شريطة أن يكون الضعف، «فالأرنب لابد أن يعود إليهم أرنبين». لا يهم أن يتم القفز على المبادئ و الجمال.. أو التطفل على تخصصات الآخرين..فالمال والفهلوة يؤمنان الطريق لأى شىء. (3) «الأفندى» بطل الرواية.. اسمه الذى طبعه على الكارت الشخصى، حبيب الله الأفندى كما طبع مهنته بالعربية والانجليزية: «مرشد سياحى»..على الرغم من أنه حاصل على بكالوريوس علوم تخصص فيزياء وفلك..وحجته «أن ما يمارسه هو نوع مخصوص من الإرشاد السياحى لا يحتاج إلى تصريح من أحد.أختار زبائنى بنفسي، وأحدد طبيعة عملى بمزاجي، مرشد خاص جدا»، للخدمات الخاصة بالسياحة:بيع وشراء، وتأجير سيارات، وأماكن للسهر، وشقق مفروشة. يعمل فى كل شىء: تجارة العملة، تسقيع الأراضى، الأحجار الكريمة، إنتاج وكتابة الأفلام.. إنها الأفلام التى وصفها صديقه الذى كان شاعرا وبات «صحفى علاقات عامة» بأنها أفلام تنتمى إلى المدرسة «التبقيعية»، حيث الفيلم هو نتاج مجموعة من البقع المصورة التى لا يربط بينها شىء. أما عن الجمال فإن بيع الزهور صار بضاعة كاسدة، الناس لا تهتم بزهور الحياة التى تمسكها بيدها، تنشغل أكثر بالغيب الذى لا تعلمه، تريد أن تطمئن على مستقبلها،حال الدنيا مقلق، والناس لا يعرفون ماذا يريدون منها. لقد بات منشغلا بجمع المال وشراء الأرض ل«تسقيعها».. بالرغم من أن التاجر القديم يقول له: «إن أساس التجارة أن تقرب البعيد، تشترى من مكان، وتبيع فى مكان تقرب الشىء لمن يطلبه. أما ما يحدث فى الأراضى هذه الأيام فهو مجرد ألاعيب، تبعد القريب وتعطل المصالح، ولا بركة فى مكاسبها.. فعلى مدى فترة (التسقيع) تظل الأرض خالية لا يد هدمت ولا يد بنت ..فلنتأمل كيف تم التباعد بين من يحتاج للأرض للسكن أو للعمل،حيث طال عليه الوقت وأرهق بزيادة الوقت». الأفندى.. رواية بديعة عن أحوالنا التى يجب أن نتجاوزها بالرغم من الأفندية.