على عكس ما حدث فى قضية مقتل الفنانة «سوزان تميم».. الذى فازت فيه القنوات الفضائية على الصحف فى ماراثون البث المثير عن وقائع القضية، إلى حد انتقل معه التحقيق من مكاتب النيابة إلى استديوهات البث، ومن ساحة المحكمة إلى شاشات التليفزيون، فقد التزمت معظم هذه القنوات، الحذر، فيما يتعلق بقضية مقتل الطالبتين الجامعيتين «نادين جمال» و«هبة العقاد» بمدينة الشيخ زايد، فاكتفت بإذاعة الخبر دون إضافات أو تعليقات، بل إن مقدمى برامج التوك شو، الشهيرة، قد انتقدوا الطريقة التى نشرت بها معظم الصحف وقائع الجريمة، قبل أن تتوصل أجندة الأمن إلى المتهم بارتكابها. والحقيقة أننى فزعت وأنا أتابع الأسلوب المتوحش الذى تسابقت الصحف دون استثناء فى التعامل به مع هذه الجريمة، إذ كنت أدرك - بحكم المهنة - أن معظم ما نشر، لا يستند إلى مصدر معروف أو موثوق به، قد تكون لديه معلومات محددة منها تصلح للنشر، لأن أجندة الأمن فرضت ستاراً من الكتمان على تحرياتها وتحقيقاتها، بل إنها - كما نشرت الصحف نفسها بعد ذلك - نبهت على المصادر التى تستقى منها تحرياتها، ومنها صديقات وزميلات الضحيتين وإدارة الجامعة التى كانتا تدرسان بها، ثم أصدقاء المتهم بالقتل قبل القبض عليه، بعدم الإدلاء بمعلومات للصحف حتى لا يستفيد منها الجانى أو الجناة، وحتى تتثبت من صحتها ومن صلتها بالجريمة، وحتى لا تشوش الصحف على ما تقوم به من جهد لمعرفة الحقيقة. ومقارنة سريعة بين ما نشر فى الصحف عن هذه الجريمة، قبل الكشف عن غموضها، وبين المعلومات التى أذاعتها الشرطة، وما جاء فى أقوال واعترافات المتهم بارتكاب الجريمة، تكشف عن أن معظم - إن لم يكن كل - ما نشرته الصحف لا صلة له بالحقيقة، ولا علاقة له بالجريمة، وأنه كان وليد خيال جامح - وإلى حد كبير ركيك - دفع أصحابه لفبركة وقائع لم تحدث، واصطناع نتائج طبية لم تصدر، ونتائج تحليلات دم لم تجر.. كما دفعتهم شهوة شريرة، للفضح والتشهير والتلصص على الحياة الخاصة للضحيتين المسكينتين، ونشرها على الملأ، دون التثبت من صحتها، ومن أن لها صلة بالجريمة، ولم يكن ينقص هذه الصحف، إلا أن تقول إنهما تستحقان القتل، وأن قاتلهما، يستحق جائزة الدولة فى «الآداب» لأنه قام بتطهير المجتمع منهما! وليس لذلك سوى تفسير واحد، هو أن التدهور فى القيم المهنية فى الصحافة المصرية، قد وصل إلى ذروته، وأن التنافس المجنون على نشر خبر مثير، يوشك أن يقودها إلى الهاوية، فلم يعد أحد يحرص على أن يتثبت من أن الخبر الذى يدفعه للنشر، له مصدر معروف، له صلة بالموضوع، ومن أنه ينطوى على الحد الأدنى من المصداقية، على الأقل من الناحية المنطقية. ولم يعد أحد يفرق بين التقاليد والقواعد المهنية، التى ينبغى على الصحف أن تتبعها قبل أن تنشر خبراً، وبين الأخبار التى تتبادلها ربات البيوت فى جلسات النميمة، حول ابنة الجيران التى ضربها أبوها علقة ساخنة لأنه ضبطها وهى تتبادل الإشارات مع شاب عبر النافذة، والست «حسنية» التى يبدو أن زوجها بعافية شوية، بدليل أنها لم تعد تستحم صباح كل جمعة! وأسوأ ما حدث نتيجة لهذا النشر المكثف والمشوه والمفبرك لوقائع الجريمة، هو أن الجميع تحولوا إلى «شرلوك هولمز»، وبدأوا يحاولون فك غموضها، وانتهوا إلى يقين بأنها تمت بدافع الانتقام، وهو أحد احتمالات كثيرة كانت الشرطة تبحث عما يؤكدها، فلم تجد، وحين تم القبض على المتهم بالفعل، لم يتنازل «شرلوك هولمز المصرى» عن الحكم الذى أصدره فى القضية. وعزّ عليه أن يضيع هدراً المجهود الضخم الذى بذله فى البحث والتحرى وإجراء التحريات والتحليلات الطبية، وهو جالس أمام شاشة التليفزيون، فأصر على أن المتهم بريء، وأن الشرطة لفقت له التهمة، ولو أن المحكمة أدانته، فمعنى ذلك أن القضاء غير نزيه وغير عادل.. فهو يعانى من الفراغ، ويريد موضوعاً يتسلى به، لذلك قرر أن يجمع فى شخصه الكريم بين دور الشرطى ووكيل النيابة والقاضى، تطبيقاً للمثل الشعبى: «الفاضى يعمل قاضى»!. تلك هى عدالة الشوارع، التى حذرت منها قبل أسابيع فى هذا المكان، والتى يسعى الذين يمارسونها أو يحرضون عليها، إلى نقل سلطة الشرطة والنيابة والقضاء فى تطبيق القانون، إلى الشارع مباشرة، ليتحول كل مواطن إلى مشرّع وقاض وجلاد، يضع لنفسه قانون عقوبات خاصاً به، يطبقه على كل من يختلف معه، ويتولى بنفسه التحقيق معه، وإصدار الحكم ضده، بلا دفاع، وينفذه دون استئناف أو نقض.. لينتهى الأمر بفوضى عارمة سيدفع ثمنها الذين يتصورون أن هذه حرية الصحافة وتلك هى الديمقراطية، إذ سيكونون أول الذين يسحلهم خصومهم فى الطرق العامة، تطبيقاً لقاعدة: «الفاضى يعمل قاضى»!. وياسيادنا الذين فى نقابة الصحفيين: ألا تجدون فيما نشر عن هذه القضية وفى غيرها من الألفاظ السوقية التى يتبادلها الصحفيون، ما يدعوكم لإصدار بيان لتذكير الزملاء بأن هدف الصحافة ورسالتها الأساسية، هى أن تخدم المصالح العامة، لا أن تنافس ربات البيوت فى نشر أخبار الست حسنية التى يبدو أن زوجها بعافية شوية!.