فى الأفق ثمة ملامح لثورة علمية عظيمة فى مجال العلوم الطبيعية، كما سأبين فيما يلى، بعد وضع خط تحت «ملامح»، لأن المؤشرات والأدلة لا تزال متضاربة. لا تبلغ قوة النظريات العلمية ذروتها عندما تنجح فى شرح الظواهر الطبيعية المعروفة، لكن عند التنبؤ بظواهر جديدة: عندما تتكهن بظواهر مجهولة، يتم العثور عليها عمليا على أساس ما تشير إليه النظرية، من خلال بحث دؤوب توجهه تنبؤاتها.. ففى العقود الأولى من القرن الماضى مثلا تم اكتشاف ميكانيكا الكم والنسبية- النظريات التى تشرح العالم المادى عندما تنكمش الأبعاد والأحجام، لتصل لمستوى الذرة أو أصغر، أو ترتفع الطاقات وتقترب السرعات من سرعة الضوء- وعندما حاول العالم الإنجليزى العظيم بول ديراك (سنة 1928) دمج النظريتين، حدث شىء عجيب. اكتشف «ديراك» أن المعادلات تشير إلى وجود «أخ» للإلكترون- جسيم جديد يشارك شقيقه فى كل صفاته، فيما عدا الشحنة الكهربائية الموجبة، على عكس شحنة الإلكترون سالبة. بدا ال«بوزيترون» - هكذا سمى ديراك جسيمه الجديد- كالشبح، الذى «طلع من وسط المعادلات»، وكأنه تجسيد رمزى لمصباح علاء الدين، رغم أن السبب الرياضى المباشر لظهوره كان معروفًا للكل.. فربما يتذكر بعض القراء، من مناهج الجبر المدرسية، أن المعادلات الجبرية التربيعية لها حلان، أحدهما رقم موجب (أمامه علامة الزائد) والآخر سالب (أمامه الناقص)، وهذا بالضبط ما تؤول إليه معادلات ديراك، بعد حسبة طويلة بالطبع. لكن شجاعة ديراك كانت فى أخذ معادلاته مأخذ الجد، فى اعتبار أن كل حل يمثل حالة جسيم بعينه: أحدهما للإلكترون والآخر للبوزيترون.. يتطلب التنبؤ بعالم مادى جديد، على أساس نظرى رياضى كما هائلا من الجرأة والجسارة الفكرية، تعرض بسببها «ديراك» لانتقادات لاذعة، فسخر منه مثلا العالم الروسى المرموق «ليف لانداو»، وأطلق عليه لقب «ديوراك» (وهو ما يعنى أحمق بالروسية)، حتى تم اكتشاف البوزيترون عمليا عام 1932 وثبتت صحة أفكار ديراك الثورية! وكان هذا الحدث بمثابة انتصار عظيم للعقل العلمى، لأنه حول كائنًا خياليًا مجهولاً، خرج من عالم المعادلات الرمزى، الغامض والمعقد، لحقيقة واقعية فى العالم المادى العادى. تم اكتشاف ال«بوزيترون» من خلال دراسة ما يسمى أشعة الجسيمات الكونية، وهى عبارة عن سيل من الجسيمات التى تمطر الأرض من السماء بسرعات عالية تقترب من سرعة الضوء (330000 كم فى الثانية الواحدة!).. لم يكن مفهوما فى الثلاثينيات كيف يمكن أن تعجل المادة مثل هذه السرعات، أما الآن فنعرف عدة ظواهر كونية يمكن أن تفعل ذلك، منها مثلا انفجارات النجوم العملاقة وتصادم المجرات (وهذه مجاميع ضخمة من مليارات النجوم).. مع ذلك، تشير تجارب الرصد الدقيقة، خلال الشهور الماضية، إلى تباين حاد بين عدد البوزيترونات المرصود، بالمقارنة بالذى يمكن توقعه من معظم المصادر الكونية التقليدية المعروفة. فى ذلك ربما تكمن بوادر زلزال علمى عظيم، فمن المعروف أن معظم المادة فى الكون «مظلمة»: لا يمكن رؤيتها، رغم إمكانية استنتاج وجودها نظريا من خلال دراسة حركة النجوم فى المجرات مثلا، تماما مثلما يمكن استنتاج وجود خيط يربط مصباحًا خافتًا، نراه يدور فى حجرة مظلمة، حتى إذا عجزنا عن رؤية الخيط نفسه.. فى نفس الوقت تتنبأ نظريات الطبيعة بوجود «عائلات» كاملة من الجسيمات التى لم يتم الكشف العملى عنها بعد، ويعتقد البعض أن تفاعلات تلك الجسيمات (عند تصادمها مع بعضها مثلا) هو السبب فى ظاهرة البوزيترونات الزائدة المرصودة. إذا صح ذلك، فنحن فعلا على وشك إنجاز علمى عظيم، لا يقل عن تنبؤ «ديراك» بوجود البوزيترون نفسه.. فمرة أخرى يتم الكشف «فى الواقع» عن مكونات للكون توقعتها أولاً نظرياتنا العلمية «على الورق». بعد شهور ستبدأ محاولات الكشف المباشر عن الجسيمات المكونة للمادة المظلمة ب«المعجل الكبير» بمركز بحوث الفيزياء النووية الأوروبى «سيرن»، ومن خلال تجارب أخرى عديدة تهدف لرصد جسيمات المادة المظلمة الساقطة من السماء.. ويمكن اعتبار كل هذه «محاولات لتنوير الكون»، فلن تظل معظم المادة فيه مظلمة بعد الكشف عن الجسيمات المكونة لها وحصرها. وحينذاك ستتطور نظرتنا للكون، ولمكاننا فيه، ولا شك أن فى كل ذلك شيئًا من السحر، سحر الشجاعة الفكرية الكامنة فى قدرة على التساؤل يصاحبها عمق فى الإجابة، التى تحرر العقل البشرى تدريجيا من جور الخزعبلات والعشوائية، عن طريق تنظيم وتنوير العالم الذى يعيش فيه. [email protected]