لابد أولاً أن أقرر أن كثيراً مما نشر حول قضية اغتيال سوزان تميم لم يكن فقط مخالفاً للقانون، ولكنه كان مخالفاً لمواثيق الشرف الصحفية، فعلى الرغم من أن الرأى العام من حقه أن يعلم إن رغب ما يحدث فى تلك المحاكمة، إلا أن ذلك مشروط بضرورة توفير جو هادئ يحظى فيه المتهم بمحاكمة عادلة حتى يتقبل الحكم الصادر عليه أياً ما كان بنفس مطمئنة. ومن هنا فإننى قد أتفهم رد الفعل المبالغ فيه للدائرة التى تنظر تلك القضية، والتى أصدرت قراراً بحظر النشر فى تلك القضية، وسمحت فقط لمن يريد بأن ينشر منطوق قرارات المحكمة وما يصدر عنها من أحكام تمهيدية ونهائية، وقررت عدم السماح بدخول آلات التصوير أو التسجيل إلى قاعة المحكمة، مقررة أن محضر الجلسة هو طريقة التسجيل الوحيدة لما يدور فيها. ويهمنا قبل أن نزن ما قامت به المحكمة فى ميزان القانون أن ننبه إلى أن قرارات المحكمة، بل والأحكام الصادرة عنها، يمكن التعقيب عليها فالأحكام والقرارات العلنية تصدر باسم الشعب، ويجب أن يراقبها الشعب، شريطة أن يكون التعقيب عليها، بل وتعييبها متفقاً مع جلال العدالة، ووقار سدنتها. والأصل فى المحاكمات أنها علنية وأن التحقيقات الابتدائية هى السرية، فالمحاكمات يجب أن تجرى تحت بصر الجمهور الذى قد يجد فيها نوعاً من إشباع الشعور بالعدالة أو لوناً من ألوان الردع، على أن المحكمة قد تجد فى بعض الأحيان لدواع تقدرها أن تأمر بجعل الجلسة سرية، وفى هذه الحالة فقط لا يجوز نشر ما يجرى فى الجلسة السرية، حيث تنص المادة 189 من قانون العقوبات المصرى على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر بإحدى طرق العلانية ما جرى فى الدعاوى المدنية أو الجنائية التى قررت المحاكم سماعها فى جلسة سرية». على أنه مادامت المحكمة فى قضية اغتيال السيدة سوزان تميم لم تجعل جلسات المحاكمة سرية، فإنه لا يحق لها أن تأمر بحظر نشر ما يدور فى جلسة علانية، فالعلانية تفترض مما تفترضه نشر ما يدور فيها بكل الوسائل التى اعتبرها قانون العقوبات فى المادة 171 منه طرقا للعلانية، ومن بينها الصحافة طبعاً. والقول بغير ذلك يوصلنا إلى نتيجة طريفة هى أن المواطن الذى يجد لديه الوقت لمتابعة سير المحاكمة من داخل قاعتها سوف يكون لديه من المعلومات أكثر بكثير من ذلك المواطن الذى لا تمكنه ظروفه من متابعة المحاكمة من داخل تلك القاعة، وهو أمر يخل بمبدأ المساواة، ويحمل المحكمة أعباء تكدس القاعة وتزاحم الجمهور فيها، كما أنه لا يقبل من المحكمة - أى محكمة - أن تحدد ما ينشر وما لا ينشر، فهذا يدخل فى إطلاقات سلطة رؤساء تحرير المطبوعات أو الإعلاميين أنفسهم، وهو يمثل تدخلاً من القضاء فى أعمال سلطة مستقلة نص عليها الدستور، هدفها الوصول إلى المعلومات وهى سلطة الصحافة. ومن هنا يمكننا القول إن ما قررته المحكمة لا سند له فى القانون الذى يحمى أساساً سرية التحقيق الابتدائى وفقاً للمادة 193 عقوبات أو ما يجرى فى المحاكمات السرية على النحو الذى قدمناه. ولكن للمحكمة إن رأت أن ما نشرته إحدى الصحف أو كل الصحف يمثل تأثيرا على قضاتها أو على الشهود أو على الرأى العام لصالح المتهم أو ضده، أن تحيل المادة المنشورة إلى النيابة العامة لاتخاذ شؤونها فيها، حيث تمنع المادة 187 من قانون العقوبات نشر أمور من شأنها التأثير فى القضاة الذين يناط بهم الفصل فى دعوى مطروحة أمام أى جهة من جهات القضاء فى البلاد أو فى رجال القضاء أو النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بتحقيق أو التأثير فى الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة فى تلك الدعوى أو فى ذلك التحقيق أو التأثير فى الرأى العام لمصلحة طرف فى الدعوى أو التحقيق أو ضده، وهى جريمة عقوبتها الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر والغرامة التى لا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين، فإن رأت النيابة العامة أن ما نشر يشكل تلك الجريمة أحالت المتهم إلى محكمة الجنح إن شاءت عاقبت وإن شاءت برأت وفق ظروف كل قضية وأوضاعها وشكل النشر وسببه، مع الأخذ فى الاعتبار أن تلك الجريمة من الجرائم العمدية التى يجب أن تثبت النيابة فيها أن الصحفى نشر ما نشر بهدف التأثير على الخصومة الجنائية وليس بهدف إعلام الجمهور بمجريات المحاكمة. إن الموازنة بين حق الجمهور فى المعرفة والمعلومات وحق المجتمع فى أن تمضى الخصومة بأطرافها فى جو هادئ لا تتأثر إلا بما يطرح فى مجلسها من أوجه دفاع ودفوع، هى عملية شاقة ولكنها ليست مستحيلة، وإن كان قرار محكمة جنايات القاهرة لم يلتفت إليها خاصة والقرار صدر على عجل، ومتأثر بكتاب أصدره أحد المحامين الذين أقحموا أنفسهم على الدعوى الجنائية من الأساس، وكانت المحكمة على صواب - كل الصواب - فى أن تضبطه وتحيله إلى النيابة العامة لتتخذ شؤونها فيه، وهو ما يجعلنا نناشد المحكمة أن تعيد النظر فى قرارها، وأن نناشد فى الوقت ذاته نقابة الصحفيين المصريين أن تقف بالمرصاد لهؤلاء الذين يتخذون من الخصومة الجنائية وسيلة لرفع توزيع صحفهم، وهو أمر يتنافى مع ميثاق الشرف الصحفى الذى آن أوان تطبيقه بصرامة لو أردنا لمهنة الصحافة أن تستعيد احترامها فى أعين قرائها.