فى بداية الثمانينيات، كنت أعمل مديراً لتحرير صحيفة «الأهالى» - لسان حال حزب التجمع - وكنت أتلقى بهذه الصفة قرارات النائب العام بحظر النشر فى بعض القضايا التى يحقق فيها، وأحتفظ بها فى ملف خاص.. اكتشفت مرة وأنا أراجعه، أن النيابة العامة أصدرت خلال ثلاث سنوات 33 قراراً بحظر النشر عن تحقيقات تجريها، بمتوسط قرار كل شهر، وهو ما بدا لى معه أنها تسىء استغلال حقها القانونى فى فرض هذا الحظر، بما يشكل رقابة مسبقة على الصحف، وهو الأمر الذى يحظره الدستور بنص صريح فيه. كان من الشواهد التى عثرت عليها فى هذا الملف، تأكيداً لذلك، أن هذه القرارات التى لم يكن لكثير منها أى تفاصيل عن طبيعة الوقائع التى يحظر النشر عنها، اكتفاء برقم المحضر واسم المتهم الأول، كانت تشمل طائفة واسعة وغير متجانسة من الجرائم تجمع بين الجاسوسية وتهريب المخدرات والدعارة والرشوة والاختلاس والتزوير، على نحو يصعب معه الجزم بأن قرار حظر النشر قد صدر فى نطاق الضوابط التى وضعها القانون، حين منح النيابة هذا الحق، وهو أن يكون ذلك «مراعاة للنظام العام أو الآداب أو لظهور الحقيقة»، وهو ما يعنى أن يكون هذا الحظر لمصلحة التحقيق وفى سبيل إظهار الحقيقة، وحتى لا يؤدى النشر إلى إفلات متهم هارب، أو إخفاء أحد أدلة الإدانة. أما أهم هذه الشواهد، فهو أن النيابة العامة كانت تصدر قرارات حظر النشر فى بعض هذه القضايا وتظل قائمة لشهور وأحياناً لسنوات طويلة، من دون إلغائها سواء بقرار من النائب العام، أو بسقوط قرار حظر النشر تلقائياً بمجرد إعلان قرار الاتهام فى القضية وإحالتها إلى المحكمة المختصة، التى تصبح آنذاك صاحبة السلطة فى تقرير علنية أو سرية المحاكمات، وهى شواهد دفعتنى مع غيرها لاستنتاج أن هناك سبباً آخر - غير مصلحة التحقيق - يقف وراء بعض قرارات النيابة العامة، بحظر النشر، على نحو يجعلها بمثابة رقابة مسبقة على حرية الصحافة. وكان ذلك هو ما جعلنى أثناء انعقاد المؤتمر العام الثالث للصحفيين، الذى انعقد عام 1996، لكى يعد مشروع قانون لحرية الصحافة، يعبر عن وجهة نظر الصحفيين، أقترح النص فى هذا المشروع على تنظيم سلطة النيابة العامة فى حظر النشر عن التحقيقات التى تجريها، بحيث يكون قرارها فى هذا الشأن مسبباً ومؤقتاً، لا تزيد مدته على ثلاثة شهور، يجوز مدها لفترة أخرى، يسقط بعدها القرار تلقائياً، سواء صدر قرار الاتهام فى القضية أو لم يصدر، وهو اقتراح لم توافق عليه الحكومة آنذاك، وحتى الآن، ولابد وأن يظل مقيداً على جدول الأعمال فى كل جهد يبذله الصحفيون لإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، وإزالة العقبات القانونية والعرفية أمام حرية الصحافة. لكن تنظيم ممارسة القضاء لحقه فى حظر النشر، لابد وأن يواكبه بل يسبقه، التزام من الصحف ووسائل الإعلام، بأدبيات النشر عن الجريمة التى انتقلت، وخاصة فى السنوات الأخيرة، إلى مقدمة اهتمامات الصحف المصرية، كمادة مثيرة قادرة على الترويج للصحف، وعلى اجتذاب جمهور واسع لها، وخاصة من العوام وأنصاف المتعلمين، مما شجع الناشرين على إصدار صحف أسبوعية متخصصة فى النشر عن الجرائم، ظلت تتزايد حتى أصبح لدينا ما يزيد على صحيفتين يوميتين متخصصتين فى هذا المجال، فضلاً عن عشرات الصفحات التى تخصصها لها - يومياً - الصحف الأخرى. والحقيقة أن الطريقة التى تمارس بها الصحف المصرية حقها فى نشر الجرائم، تنطوى على مخالفات صريحة لبعض مواد قانون العقوبات، بصرف النظر عما قد يكون لدينا من تحفظ على هذه المواد، لعل أبرزها حظر نشر أخبار بشأن التحقيقات أو المرافعات فى دعاوى الطلاق أو التفريق أو الزنا، وهى جريمة ترتكبها الصحف يومياً على الرغم من أن القانون يعاقب عليها بالحبس لمدة ستة أشهر، أو بغرامة تتراوح بين 5 و10 آلاف جنيه، ولكن أحداً لا يحاسبها على ذلك. أما المهم فهو أن الصحف المصرية لا تعرف شيئاً عن أدبيات نشر الجريمة، بل إن تقارير متابعة الأداء المهنى للصحف المصرية، قد كفت عن متابعة مدى التزامها بهذه الأدبيات، ومن بينها عدم جواز نشر أسماء وصور الأحداث الجانحين، أو نشر الوقائع فى قضايا الطعن فى النسب أو نشر أسماء وصور المتهمين فى قضايا الدعارة، وعدم جواز نشر الجرائم الشاذة والاستثنائية.... إلخ. وأسوأ ما تفعله الصحف ووسائل الإعلام فى هذا المجال، هو إهدارها للقاعدة الدستورية والقانونية، بأن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، والحماقة التى تدفع بعضها لتجاوز دورها المهنى الأساسى - وهو نشر أخبار الجرائم والمحاكمات بدقة وحياد، ومن دون انحياز لطرفى الخصومة، وهما النيابة العامة والدفاع، سواء فى مساحة ما ينشر أو مضمونها - لكى تتحول من «صحف» إلى «محاكم»، ومن «نشر الأخبار» إلى إصدار الأحكام، مما يسهم فى تخليق تيار فى الرأى العام، يكوّن - عبر الصحف ووسائل الإعلام - رأياً فى القضية، ويثور إذا ما أصدر القاضى حكماً فيها يتناقض مع هذا الرأى، وبذلك تسود «عدالة الشوارع» التى يمكن أن تهدر حقا أساسياً من حقوق الإنسان، وهو «الحق فى العدالة»! فهل آن الأوان لكى يكون للصحافة المصرية مواثيق شرف مهنية نوعية، بما فى ذلك أدبيات النشر عن الجريمة قبل أن تحولها الرغبة فى الإثارة، إلى نشرات بلهاء من النوع الذى كان باعته فى أسواق القرى ينادون عليه قائلين: «اقرأ يا جدع.. قصة المرة اللى كلت دراع جوزها!».