تشير التطورات الدولية فى الآونة الأخيرة وبيانات الرئيس الأمريكى المنتخب باراك أوباما إلى أن أجندة الرئيس القادم -الذى سيتولى مهام الرئاسة رسمياً فى العشرين من شهر يناير القادم- لن تتضمن بنوداً منفصلة تمثل أولويات سياسته الخارجية بعد توليه السلطة، وإنما حزم من البنود والأهداف، وذلك بسبب التطورات الدولية الأخيرة (خصوصاً أزمة القوقاز وتداعياتها على مسألة نشر الدرع الصاروخية، والأزمة المالية، وتداعياتها التى فرضت تعاملاً دولياً جماعياً معها) وتشابك الملفات (النزاع العربى الإسرائيلى مع قضية العراق من ناحية، وعملية السلام مع علاقات سوريا الاستراتيجية من ناحية أخرى). وعلى سبيل المثال فإن قضيتى الحرب فى أفغانستان ومكافحة الإرهاب باتتا قضية واحدة تندرج تحت بند تأمين أمريكا ضد الإرهاب، ومعالجة الأزمة المالية انضوى تحتها التشاور مع «المنافسين»، وعلى رأسهم الصين وروسيا ليس فقط من أجل التعاون فى التعامل مع الأزمة، بل معالجة قضية نشر الدرع الصاروخية والوضع فى القوقاز والملف النووى الإيرانى، وقضايا العراق وإيران والنزاع العربى الإسرائيلى بات الأرجح هو التعامل معها ضمن بند واحد عنوانه التسويات الإقليمية والأمن الإقليمى، وقضية فرعية فى عملية السلام هى المسار التفاوضى الإسرائيلى السورى لم تعد مطروحة تحت بند الأرض مقابل السلام ولا السلام الكامل مقابل علاقات كاملة وتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل (المبادرة العربية للسلام) وإنما أصبحت مطروحة تحت بند إضافى هو الأرض مقابل التحول الاستراتيجى لسوريا وفك ارتباطها مع إيران. ومن ثم فإن انخراط الإدارة الأمريكيةالجديدة برئاسة باراك أوباما فى عملية السلام لن يأتى من باب الاهتمام بالنزاع ولا بعملية السلام وإنما من باب الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة فى التعامل مع الشرق الأوسط، والتوجه نحو تسويات وحلول وسط لمعالجة القضايا الساخنة ذات الارتباط والتى نجحت أطراف إقليمية فى ظل الإدارة الجمهورية السابقة فى ربطها ببعضهما البعض على نحو ما نجحت فيه إيران وسوريا، وتعد حرب صيف 2006 واتفاق الدوحة 2008 لمعالجة الأزمة اللبنانية نموذجين لذلك، والنموذج الثالث هو العراق. ومن ثم ليس مستبعداً أن تشهد الفترة القادمة مزيداً من التشابك بين الملفات وأن يطرح ملف البرنامج النووى الإيرانى ضمن تسويات أمنية شاملة فى الشرق الأوسط الكبير وفى القلب منه منطقة الخليج. ويرجح ذلك فى نموذج العراق قول مستشارى أوباما للسياسة الخارجية إن العراق المستقر والأمن فى المنطقة «مسؤولية إقليمية».. وطرحهم أفكاراً حول مدى تأهل إيران أو تأهيلها للقيام بمسؤولياتها الإقليمية إذا كانت تريد لنفسها دوراً فى تحقيق الأمن والاستقرار والسلام فى المنطقة على قاعدة المصالح المتبادلة وتجنب أى مواجهة. فأوباما أعرب عن استعداده للتعامل مع واقع عالم متعدد الأقطاب، فهو تحدث مراراً -خلال حملاته الانتخابية- عن «عهد جديد للشراكة العالمية.. وبناء جسور للتعاون مع الأممالمتحدة والدول الأخرى.. وإقامة علاقات وثيقة بين الولاياتالمتحدة والمنظمة الدولية»، فضلاً عن استعداد أبداه للحوار مع إيران وسوريا. وبرغم أن ما طرحه أوباما، بيانات انتخابية وليس سياسة رئيس، إلا أن هذه البيانات تشكل توجهات وتعطى إشارات تركز على مفهوم التفاوض دون شروط مسبقة -وليس المواجهات- مع الأطراف الدولية والإقليمية لحل المشكلات والتوصل إلى تسويات تأخذ فى الاعتبار مصالح الأطراف الأخرى، وقدرتها على انتزاع الحد الأقصى من مصالحها فى عملية تفاوض. فجوهر سياسة أوباما هو التركيز على الفرص المتاحة لتحقيق مصالح أمريكا على عكس منافسه الجمهورى جون ماكين الذى اعتمد -فى حملاته الانتخابية- سياسة التركيز على مواجهة المخاطر والتهديدات التى تتعرض لها أمريكا، وهى سياسة الإدارة الأمريكية برئاسة جورج بوش. ليس هناك خلاف كبير بين التوجهين وإنما أسبقية فى الأولويات، بمعنى أن أوباما قد ينتهى إلى المواجهة مع إيران مثلاً، لكنه سيبدأ أولاً بالتعامل مع الفرص المتاحة ومنهج التفاوض. سياسة أوباما إذن هى التوجه إلى الأطراف الأخرى لعرض مزايا وفرص التعاون مع أمريكا، والمصالح التى يمكن أن تحققها هذه الأطراف خلال هذا التعاون. وإذا طبقنا ذلك على الشرق الأوسط فإن التعامل مع القضية العراقية سيدفع للحوار مع إيران -أولاً- لعل وعسى يتجنب الطرفان أى مواجهة، ولعل إيران تقنع بما يمكن أن تحصل عليه من اعتراف بدور إقليمى (وهو مطروح ضمن عرض الحوافز الغربية)، ما يفتح الباب أمام تسويات فى ملفات إقليمية أخرى. فالحوار مفيد للطرفين، فمن ناحية أخرى فإن سياسة المواجهة مع إيران قوتها برغم الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق وسياسة عزل سوريا قوتها برغم خروجها العسكرى من لبنان، كما قوت حزب الله فى لبنان بأكثر مما كانت عليه قوته وتأثيره فى الحياة السياسية اللبنانية قبل حرب 2006. لقد كان الاتحاد الأوروبى أسرع الأطراف الدولية تجاوباً وتعاملاً مع توجهات أوباما، وتجلى ذلك فى صياغة وزراء خارجية دول الاتحاد «وثيقة أوروبية» تحت عنوان «شراكة جديدة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى» خلال اجتماعهم فى مارسيليا بعد 24 ساعة فقط من فوز أوباما، وتوجه وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير -بوصف بلاده الرئيس الحالى للاتحاد- إلى واشنطن بعد أسبوع لعرض الوثيقة على الرئيس الأمريكى المنتخب. من المدهش أنه فى الوقت الذى دعت فيه الوثيقة إلى تعاون فى التعامل مع القضايا الدولية (فى إطار تعدد الأقطاب) وخصت فيه بالذكر النزاع العربى الإسرائيلى.. غاب العرب حكومات ومجتمعاً مدنياً ومناضلين عن الصورة، ولم يتوجه أحد لعرض وثيقة أو طرح رؤية، فيما إسرائيل تتأهب وتستعد بالمتطرف بنيامين نتانياهو رئيس حزب ليكود رئيساً للحكومة فى انتخابات فبراير القادم لمقاومة أى احتمال لفرض ضغوط عليها فى ظل تعدد الأقطاب ومراكز التأثير وتشابك الملفات. فقد انشغلت بعض الأنظمة العربية بمعرفة كيفية تعامل أوباما مع مسألة الديمقراطية والإصلاح السياسى برغم أن المؤشرات ترجح قبول الإدارة الديمقراطية القادمة فكرة التدرج (أن تأخذ الأنظمة وقتها لكن المهم أن تكون هناك خطوات ملموسة) مع عدم التسامح مع انتهاكات حقوق الإنسان وربط أى مساعدات واتفاقيات التجارة الحرة مع دول العالم الثالث بملفها فى مجال حقوق الإنسان. أما بعض المجتمع المدنى فقد اهتم بمعرفة ما إذا كانت الإدارة الجديدة ستوفر مظلة وإمدادات لوجستية ودعماً معنوياً!، أما المناضلون فقد اختزلوا فوز أوباما فى رحيل جورج بوش والمحافظين الجدد، فتفاءلوا قبل أن يفاجئهم أوباما باختيار يهودى أمريكى، خدم فى الجيش الإسرائيلى، رئيساً لهيئة موظفى البيت الأبيض فتشاءموا. [email protected]