رغم عتبى الشديد على بعض تصرفات عدد من الفصائل الفلسطينية، ورغم أن تشرذمها وانقساماتها فى هذه الفترة العصيبة أمر غير مقبول إطلاقاً.. رغم ذلك كله فإن الذى يحدث من الاحتلال الإسرائيلى، سواء فى قطاع غزة أو فى الضفة الغربية، جاوز كل الحدود والأعراف والقوانين والتصرفات الإنسانية. ولست أنا الذى أقول هذا الكلام أو يقوله أحد من الفلسطينيين، وإنما يقوله ممثلو الوكالة الدولية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة، وهى منظمة تابعة للأمم المتحدة.. يقول ممثلو هذه الوكالة الذين يعتمد عليهم أكثر من نصف مليون فلسطينى فى قطاع غزة إن ما تملكه الوكالة قد نفد تماماً نتيجة مباشرة لاستمرار إسرائيل فى إغلاق كل أبواب الاتصال مع القطاع، وعلى ذلك فإن الوكالة ستضطر راغمة إلى أن توقف نشاطها كاملاً فى القطاع، وهذا يعنى انسداد شريان الحياة، والموت جوعاً بالنسبة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين يخضعون للاحتلال الإسرائيلى فى غزة، ورغم كل محاولات الأونروا - الوكالة الدولية للإغاثة - مع السلطات الإسرائيلية من أجل فتح المعابر إلى غزة والسماح بدخول المواد الغذائية والمواد الدوائية فإن إسرائيل لم تستجب، وإن هذا الوضع ليس قصاراه أنه يؤثر تأثيراً خطيراً على الاحتياجات المادية للمواطنين الفلسطينيين بل إنه يتجاوز ذلك إلى القهر النفسى وفقاً لتعبير ممثلى الوكالة الدولية. وإسرائيل تتذرع لقفل المعابر بما تدعيه من إطلاق صواريخ من غزة نحو بلدات إسرائيلية قريبة من حدود القطاع، والكل يجمع على أن هذه الصواريخ لا تحدث فى إسرائيل أضراراً مادية أو بشرية، كما أن مصدر هذه الصواريخ غير محدد ولا معروف، ومن يدرى لعل بعض عملاء إسرائيل يطلقونها لكى يعطوا إسرائيل الذريعة لاستمرار هذا القهر وهذا العذاب وهذا الهوان الذى لم يلاقه شعب قط من سكان الأرض أجمعين، ممن خضعوا لاحتلال نازى أو فاشى قديم أو حديث، ولكن إسرائيل تريد أن تثبت للعالم الذى لا يريد أن يهتم أنها تفعل ما لم يفعله أحد من قبلها من المآسى والكوارث الإنسانية، التى تناقض ليس فقط القانون الدولى الإنسانى وإنما كل الأعراف والتقاليد الإنسانية. ومن المؤلم والموجع أن الجمعيات التى تحاول أن تكسر هذا الحصار رمزياً، وتأتى عن طريق قبرص كلها جماعات أوروبية وليس فيها عرب عاربة أو مستعربة. هذا ما يحدث فى قطاع غزة. وما يحدث فى الضفة الغربية ليس أقل سوءاً وإجراماً وافتئاتاً على المواثيق الدولية، عملية تمزيق أوصال الضفة الغربية تسير على قدم وساق حتى لتوشك الضفة أن تصبح عدداً من الكانتونات المنفصلة عن بعضها والتى لا يستطيع المواطن الفلسطينى أن ينتقل فيها من مدينة إلى مدينة أو من قرية، إلى قرية ذلك إلى جوار «قضم» جزء من الأرض هنا، وجزء من هناك، حتى لا يبقى من الضفة إلا ما لا يصلح لاستمرار الحياة، وعمليات إتمام الجدار العنصرى العازل تسير على قدم وساق رغم قرار محكمة العدل الدولية بلاهاى، التى شرفت بالمثول أمامها مدافعاً عن الحق الفلسطينى.. ذلك القرار الذى صدر بإجماع أربعة عشر قاضياً من القضاة الخمسة عشر أعضاء المحكمة، ولم يخالف القرار إلا القاضية الأمريكية، والذى قرر بعبارات واضحة لا لبس فيها أن هذا الجدار يخالف القانون والمواثيق الدولية واتفاقيات جنيف الخاصة بحماية الأراضى المحتلة وسكانيها، ولكن إسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون وفوق محكمة العدل، أليس أهلها هم «شعب الله المختار» وفق مايدعونه من أساطير توراتية مفضوحة ومكذوبة! ليس هذا فحسب، ولكن الإهانات والاعتداءات النفسية والبدنية المتكررة التى يقوم بها «بلطجية» المستوطنين الإسرائيليين فى حماية جنود الجيش الإسرائيلى على الفلسطينيين العزل المسالمين هى ظاهرة تتكرر كل يوم فى الخليل وفى غيرها من مدن الضفة، حتى المساجد نفسها فى هذه المدن لم تسلم من انتهاك وعدوان هؤلاء المستوطنين الذين لا يرعون لشىء وقاراً. ولم تكتف إسرائيل بذلك كله - وهو كثير - بل جاوزته إلى تدمير حقول الزيتون التى يكاد يعتمد عليها قطاع ضخم من الفلسطينيين، والتى يعتبر موسم حصاده أشبه بعيد شعبى كما كان يحدث عندنا بالنسبة لمحصول القطن. وسيلة إسرائيل إلى تدمير المحصول ومنع الفلسطينيين من قطافه هى الحيلولة دونهم ودون الوصول إلى حقول الزيتون إلا بمقتضى تصاريح تمنحها وتمنعها سلطات الاحتلال الإسرائيلى، وهذه التصاريح تهدف فى الأساس إلى إعاقة جنى المحصول، فهى لا تعطى أحياناً إلا لكبار السن العاجزين، ويحرم منها الشباب القادر على القطف. هذا إلى جوار اعتداءات المستوطنين على الذين يجنون المحصول، سواء بالضرب أو بحرق الأرض أو قطع الأشجار، كل ذلك فى رعاية وحماية الجنود الإسرائيليين. ومن الحق أن نذكر أن بعض المؤسسات الحقوقية الإسرائيلية التى هالها ما تقوم به دولتها مساعدة الفلسطينيين بإعطاء بعضهم «كاميرات» لتصوير ما يقوم به المستوطنون من عدوان عليهم. وقد نشر مركز المعلومات الإسرائيلى لحقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة، المسمى عبرياً «بتسيلم» صوراً تظهر جنوداً إسرائيليين يطلقون النار على مواطن فلسطينى مقيد اليدين ومعصوب العينين لا لسبب إلا لأنه كان يتعرض لهم ويحاول أن يدخل حقله. إن الذى يحدث فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، سواء فى ذلك قطاع غزة أو ما بقى من الضفة الغربية تحت أعين العالم ومنظماته الدولية، أمر يدعو إلى الشعور بالخزى والعار مما وصلت إليه الإنسانية. هل سيتحرك ضمير العالم حتى لا يموت الإحساس بالعدل، وحتى لا يدفع الإحساس بالظلم العديد من الناس إلى ارتكاب ما يكرهون، أرجو ذلك. والله المستعان