تابعت المؤتمر الصحفى الذى ظهر فيه الأستاذ جمال مبارك، أمين لجنة السياسات فى «الحزب الوطنى الديمقراطى»، ومعه الدكتور محمود محيى الدين، وزير الاستثمار، وكشفا فيه جانباً من تفاصيل ما أطلقا عليه «برنامج إدارة الأصول المملوكة للدولة». ولأنه تولد لدىّ إحساس فورى بأهمية، ربما خطورة، ما يجرى الإعداد له فقد كان من الطبيعى أن أحرص على متابعته ومحاولة تقصى أبعاده قدر الإمكان. وقد استخلصت من هذه المتابعة أن الحكومة المصرية تريد أن تمضى قدما فى برنامج «خصخصة» كانت قد بدأته منذ سنوات لكنها تدرك الآن أن هذا البرنامج بات سيئ السمعة، حيث راح كثيرون ينظرون إليه كعنوان لفساد تبغى النخبة الحاكمة من ورائه تحقيق ثروة غير مشروعة على حساب الأغلبية الكادحة من الفقراء وليس وسيلة لإصلاح اقتصادى حقيقى، ومن هنا رغبتها فى استبداله ببرنامج آخر قابل للتسويق شعبيا، كما فهمت منها أن البرنامج الجديد المقترح يتضمن مجموعة خطوات أو إجراءات تم الانتهاء من بعضها ويجرى استكمال بعضها الآخر، وذلك على النحو التالى: 1- تم حصر الشركات المتبقية تحت سيطرة الدولة - كما تم تصنيفها - فى أربع مجموعات وفق أهميتها الاقتصادية والأمنية. فهناك مجموعة أولى (فئة أ) تضم جميع الشركات العاملة فى مجال صناعات وصفت بأنها «استراتيجية»، مثل شركات الدواء والحديد والصلب والألومنيوم والكوك والسكر والنحاس والأسمدة والأسمنت، ويقترح البرنامج أن تحتفظ الدولة بنسبة لا تقل عن 67% من مجموع أصولها. وهناك مجموعة ثانية (فئة ب) تضم جميع الشركات التى وصفت بأنها «مهمة»، مثل شركات النقل والسياحة وبعض الشركات العاملة فى مجال الصناعات التحويلية، ويقترح البرنامج أن تحتفظ الدولة بنسبة تصل إلى 51% من مجموع أصولها. وهناك مجموعة ثالثة (فئة ج) تضم الشركات العاملة فى مجالات أقل أهمية، مثل شركات توزيع السلع والمواد التموينية وغيرها، ويقترح البرنامج أن تكتفى الدولة بملكية نسبة لا تزيد على 30% من مجموع أصولها. أما المجموعة الرابعة والأخيرة (فئة د) فتضم بقية الشركات الأخرى التى تم نقل ملكيتها بالكامل إلى القطاع الخاص فى إطار البرنامج القديم أو التى لا ترى الحكومة، لسبب أو لآخر، ضرورة للاحتفاظ بأى نسبة من ملكية أصولها وبالتالى سيتم تمليك ما تبقى منها للقطاع الخاص بالكامل. 2- ستجرى، فى مرحلة لاحقة، عملية تستهدف نقل الأصول المملوكة للدولة فى مختلف الفئات، بعد تحويلها إلى أسهم، إلى المواطنين أو إلى المجتمع مباشرة، وذلك من خلال وسيلتين، الأولى: توزيع نسبة تتراوح بين 80 و85% من هذه الأسهم مجانا وبالتساوى على المواطنين الذين تزيد أعمارهم على 21 عاما، والثانية: تحويل النسبة الباقية منها، التى ستتراوح فى هذه الحالة بين 10 و15%، وكذلك الأسهم المتنازل عنها طواعية من جانب المواطنين أو تخص مواطنين لم يتقدموا بطلب رسمى للحصول على حقوقهم من الأسهم المجانية خلال المدة القانونية المحددة، وهى عام من بدء تنفيذ القانون الخاص الذى سيصدر لهذا الغرض، إلى صندوق خاص جديد يسمى «صندوق حماية الأجيال القادمة». 3- ستعهد إلى هيئة مستقلة تشكل خصيصا لهذا الغرض بمهمة إدارة هذه الأصول أيا كان شكلها. وأعترف أنه طغى على فى البداية شعور بالارتياح تجاه هذا البرنامج. فمن منا يكره أن يصبح المواطنون جميعا ملاك أسهم يحصلون عليها مجانا وبالتساوى من الدولة؟ ومن منا يكره تخصيص نسبة من الأصول المملوكة للشعب لحماية الأجيال القادمة والمحافظة على حقوقها؟. ولم أستبعد، فى محاولة أولية لتفسير ما اعتقدت فى البداية أنه تغيير مفاجئ فى السياسات، افتراض حسن النية واحتمال أن تكون الرغبة الصادقة فى الاستفادة من أخطاء الماضى هى التى دفعت إلى تصحيح المسار. غير أن هذا الشعور الذى طغت عليه العاطفة لم يصمد طويلا أمام التحليل بعقل بارد. فبعد تقليب الأمر على وجوهه المختلفة توصلت إلى استنتاجات مغايرة يمكن طرحها على النحو التالى: 1- أغلب الظن أن المواطنين من سكان العشوائيات والقبور والعمال والفلاحين وصغار موظفى الدولة ومعظم الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، الذين يشكلون فى مجموعهم ما لا يقل عن 95% من إجمالى تعداد السكان ولا يجدون ما يسد رمقهم أو ما يكفى للإنفاق على تعليم وعلاج أولادهم، أغلب الظن أنهم لن يحتفظوا طويلا بأسهمهم وسيقومون ببيعها على الفور للتخفيف من حدة ضائقتهم المعيشية. ومعنى ذلك أن ملكية 95% من الأصول التى سيشملها البرنامج الجديد ستنتقل بالكامل، وخلال فترة لن تزيد على عام واحد على الأرجح، إلى ال 5% الباقية من المواطنين، التى باتت تملك كل شىء وتتحكم فى كل شىء فى مصر. ولا أظن أن أى تشريعات سوف تتمكن من الحد من ظاهرة تركز الملكية. فمعين الوسائل والأساليب التى تسمح بالالتفاف على هذه التشريعات لا ينضب أبدا. 2- ستظل قدرة الحكومة فى التأثير على البرنامج والتلاعب بأهدافه كبيرة، وذلك من خلال سيطرتها على آليات تقييم الأصول المطروحة للبيع من ناحية، وعلى آليات إدارتها بعد ذلك من ناحية أخرى، بصرف النظر عن كل ما قيل أو سيقال عن «استقلالية» جهات التقييم أو الإدارة. فطالما لا توجد حكومة منتخبة انتخابا حرا ونزيها سيظل الشك قائما حول حقيقة ودرجة استقلال أى هيئات يصدر بتشكيلها قرار إدارى من هذه الحكومة. ولأن الشعب المصرى بات صاحب خبرة كبيرة فى التعامل مع الحكومة وهيئاتها «المستقلة»، من خلال اختباره لعمل هيئات سابقة كالهيئة التى شكلت حديثا لتحل محل القضاة فى الإشراف على الانتخابات، فالأرجح أنه ستساوره شكوك كثيرة فى مصداقية وقدرة هذه الهيئات على إدارة أصوله بنزاهة وحكمة، بافتراض أنه سيظل مالكها الحقيقى. يضاف إلى ذلك أنه من الطبيعى أن يتشكك المواطن فى حرص حكومة سبق لها أن أساءت استخدام أموال صناديق المعاشات والتأمينات على «حماية الأجيال القادمة»! 3- لم يقدم الحزب الحاكم تعريفا واضحا لمفهوم «الأصول المملوكة للدولة»، التى يطمح برنامجه الجديد فى نقل ملكيتها إلى المواطنين مباشرة، حيث يوجد حصر دقيق لهذه الأصول. ولن أضرب مثلا بشركة قناة السويس، الذى عادة ما يرد هنا إلى الأذهان، وإنما بالأراضى الصحراوية التى تخصص لأغراض البناء أو الاستصلاح الزراعى. فهذه الأراضى هى بالقطع «أصول مملوكة للدولة»، ومع ذلك فعملية نهبها وبيعها ل«المحاسيب» واستخدامها وسيلة لشراء الولاءات السياسية، كانت ولا تزال مستمرة. 4- إذا كانت الدولة تعترف الآن بأن صناعات الأسمنت والحديد وغيرها هى صناعات «استراتيجية» تتطلب مقتضيات الحفاظ على الأمن الوطنى وسيطرة الدولة على ثلثى أصولها، كما تعترف بأن هناك صناعات أو خدمات أخرى تتطلب مقتضيات الحفاظ على المصلحة الوطنية سيطرة الدولة على نسبة تزيد قليلا أو كثيرا على نصف أصولها، فلماذا سبق للدولة أن فرطت فى أصول من هذا النوع وباعتها بالكامل وبأبخس الأسعار للقطاع الخاص، ولماذا لا تحاول الدولة استعادة ما فقدته من هذه الأصول، إذا كانت حقا مقتنعة بما تقول، لتشكيل نظام اقتصادى متكامل ومتماسك يسيطر فيه المجتمع على نسب تتراوح بين 30 و 67% من أصوله. 5- لم أفهم سبب الحرص على أن يكون جمال مبارك بالذات هو من يتولى الإعلان عن هذا البرنامج. فإذا كان المطلوب إثبات نسب البرنامج الجديد للحزب، منفردا أو بالاشتراك مع الحكومة، فالأصول فى مثل هذه الأحوال تقضى أن يكون رئيس الحزب أو أمينه العام هما المتحدثين باسمه. فى ضوء ما سبق لم أعد أشعر بأى اطمئنان لما يجرى الإعداد له. فبيع الأصول العامة الباقية سيؤدى إلى أن تؤول ملكيتها، «لكشة واحدة» وليس «تاتا تاتا» كما يقول الممثل خفيف الظل هانى رمزى فى فيلمه الجميل «عايز حقى»، إلى الطبقة ذاتها التى نهبت مصر. ومن حقنا هنا ليس فقط أن نختلف وإنما أن نعترض أيضا، وهو اعتراض لا ينبع من اعتبارات أيديولوجية وإنما سياسية. فمن يرد أن يخصخص، بصرف النظر عن النسبة، عليه أن يحصل على الشرعية أولاً، وعلى تفويض شعبى لا شبهة فيه. فالشرعية هى الفريضة التى كانت، ولا تزال، غائبة عن برنامج تحول بقدرة قادر إلى «برنامج إدارة أصول»، بعد حذف كلمة «خصخصة».. وهذه ليست أصولاً صحيحية لإدارة الأصول!