صحيح أن عشقى لوسط البلد ومعمارها الرائع ليس جديدا علىّ، لكن الغرام قد تجدد لسبب آخر. كنت قد لاحظت أنه حتى فى أوقات الذروة، التى هى اليوم بطوله- وأيام الذروة، التى هى شهور الصيف ورمضان وما قبل الأعياد وما قبل العودة للمدارس وفترات عمل مجلس الشعب وما يُستجد من ظروف غامضة، حين يتحول الشعب القاهرى إلى كوم من لحم- تظل وسط البلد غير مكدسة مروريا. هناك انسيابية فى المرور. هناك عدم تدافع واختفاء للبلطجة التى نمارسها طوال الوقت. ولأننى أذكى إخوتى فقد تطلب الأمر منى بعض التفكير الذى توصلت بعده إلى أسباب ما يحدث. إنها يا أصدقائى الكاميرات الإلكترونية، وهى اختراع سحرى أعاد إلى ذهنى صورة الأم والأب فى المجتمع المصرى، قل من قبل سبعينيات القرن الماضى، حين كان الواحد منهم «يزغر» إلى الطفل منا فنتجمد فى أماكننا. كان للآباء والأمهات وقتها هيبة. لم نكن نسمع صراخ الأم فى الأطفال. هى نظرة واحدة، نظرة قوية نافذة تحمل كل الرسائل: أن نحترم أنفسنا فى بيوت الغرباء، ألا نرفع من صوتنا أو نسبب هرجا ومرجا، باختصار أن نتبع القواعد الصارمة للأدب. هى نظرة واحدة حمراء، مثل نظرة الإشارة الإلكترونية، والعيال تتجمد رعبا. تصوروا أن حتى فى أوقات ما بعد منتصف الليل، حيث الشوارع شاغرة، تجد قائد التاكسى أو الملاكى يقف باحترام قبل خط الإشارة الأبيض وإلا «تك» اتصورت يا باشا. والغرامة قادمة لا محالة. لقد وصل بى الأدب ذات مرة وأنا أنظر إلى عين الكاميرا «الأم» أننى توقفت مرتبكة والإشارة صفراء لا أعرف هل أمضى قدما أم أتجمد حيث أنا، ولأننى بنباهة منقطعة النظير قد توقفت بعد الخط الأبيض، فقد التقطتنى الكاميرا. غاص قلبى بين ضلوعى وأنا أسب غبائى وقلة أدبى وعدم اعتيادى على العين الحمراء. والحق يقال إن بعض المناطق الأخرى فى القاهرة قد بدأت تشهد عودة الأم أم عين حمراء. لكن المؤسف أنه ما إن تطأ عجلات سيارتك خارج تلك المناطق السحرية حتى تجد نفسك مرة أخرى فى كوم اللحم القاهرى، حيث الأبناء نسوا التربية والأخلاق خلال سفر الأب للعمل فى الخليج واستفرادهم بالأم الغلبانة التى لا تملك ردعا ولا حسما. هيصة من السيارات التى تدفع كل منها الأخرى بالكوع، عربات «كارو» تجرها حمير مصابة بالأنيميا الحادة تصعد الكوبرى من المنزل فى مواجهة السيارات، وطبعا الحديث عن تريللات الموت على الطريق الدائرى والمحور يطول. وتقف أم اليومين دول- عسكرى المرور- المصاب بفقر الدم والاكتئاب وسط الهيصة وقد فقد الاهتمام بما يحدث وبدأ يسرح مع أحلامه الصغيرة ببيت مستور وزوجة طيبة وأطفال يتعلمون فى مدارس حقيقية. ورغم عدم الاستلطاف القديم الذى أُكّنه لوزارة الداخلية، فإننى أحرضها علينا وأدعوها بكل حماس للاستثمار فى شراء أعين حمراء تزرعها لنا فى الأماكن المختنقة بأنانيتنا واكتئابنا وعدوانيتنا. وأعلن أننى قد سامحت العين التى التقطتنى، وذلك فى مقابل أن نتأدب جميعا. والله يرحم أمهات الزمن القديم.