إذا ركبت مع سائق تاكسى فى بيروت فسوف تكتشف على الفور أنه لا أحد يمكن أن ينافسه فى سبّ الدين سوى نواب مصر ووزرائها، ذلك أن السائقين هناك نصّبوا أنفسهم نواباً عن الطائفة التى جاءوا منها والحزب الذى يتبعونه، وكذلك محامين عن الطبقة المطحونة التى لا يعرفها زائر لبضعة أيام، يقيم فى فندق فاخر، ويمشى فى الصباح على الكورنيش الذى زاد رونقه برصيف عريض، ويجد فى المحال بضائع تضاهى تلك التى فى دبى، ويتجول فى المساء بين عشرات المطاعم الصغيرة التى افتتحت مؤخراً فى شارع الحمراء وما حوله، أو المقاهى الساهرة حتى قرب الفجر فى شارع مونو فى الأشرفية أو فى صُرة المدينة فى السوليدير. بيروت عادت بيروت التى نعرفها «فى الزمانات» بمؤتمراتها ومسارحها ومظاهراتها وسواحها بعد خمس سنوات من التوتر الذى ساد إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريرى.. تلك كانت عادتها دائماً أن تفور بالحياة بعد كل مأساة، بعد الحرب الأهلية الطاحنة التى طالت لأكثر من 15 سنة، وبعد الغزو الإسرائيلى فى عام1982، وبعد عدوان 2006.. الآن لا حديث للناس سوى عن غزو جديد متوقع من إسرائيل بعد التهديدات التى أطلقها قادتها فى الأسبوعين الماضيين، لا ضد لبنان فقط وإنما ضد سوريا أيضاً، دعك من التهديد الدائم ضد إيران.. الكل هنا يسأل: تُرى حرب أم سلام؟ وهل تكون حرباً شاملة فى المنطقة كلها أم سيمكن حصرها فى بلد دون غيره. ويروى لك صحفى بريطانى حكاية لم تسمع بها من قبل عن الذين يغادرون دمشق كل يوم قبل أن يقع الهجوم، ويؤكد لك شبان متجمعون فى موقف للسيارات أن العدوان الإسرائيلى على لبنان سيقع يوم 15 هذا الشهر «أى اليوم»، وفقاً لنبوءة شيخ فى حى خندق «الغميق» كان قد تنبأ بموعد حرب «تموز» قبل أكثر من ثلاث سنوات.. حتى المسؤولين الذين يتلقون تقارير من عواصم العالم كله شرقاً وغرباً هم أنفسهم يتساءلون أيضاً عن أى سيناريوهات الحرب أكثر احتمالاً، وما إذا كان الإسرائيليون سيبدؤونها ليقضوا على صواريخ حزب الله الحديثة أو ليتهربوا من استحقاقات السلام مع الفلسطينيين، أم أن إيران هى التى ستشعل الحرب لتربك المجتمع الدولى الذى يتربص بها بعقوباته الجديدة. يجد قدامى أهل الموالاة وأهل المعارضة فى حديث الحرب حافزاً كى يناكف كل منهم الآخر من جديد، فالموالون ينادون بضرورة بحث موضوع سلاح حزب الله حتى يكون للبلد جيش واحد لا جيشان أحدهما للدولة والآخر ل«الحزب»، والمعارضون يذكّرون الناس بأن عدوان إسرائيل لا يمكن دحره إلاّ بصواريخ المقاومة التى ستطال كل بلدة فى إسرائيل.. مناكفة الفريقين حاضرة فى كل وقت، أكان هناك تهديد بحرب أم لم يكن.. المناكفة أصبحت صنعة وهواية وأسلوب حياة للساسة والناس معاً، وأسباب المناكفة جاهزة دائماً لسبب أو للا سبب، حتى إنك تتعجب أن الفريقين لايزالان شركاء فى حكومة وحدة وطنية شُكلت بعد عناء طويل وترتيبات دقيقة دامت أربعة أشهر. آخر ما اشتبك حوله الجانبان هو حادث الطائرة الإثيوبية المنكوبة.. يبدو أن لبنان الصغير هذا، الباسم دوماً فى وجه الغريب، هو البلد العربى الذى نُكب أهله بأفدح حوادث الطيران فى العقد الأخير.. قبل كارثة الإثيوبية كانت طائرة كوتونو فى بنين قد وقعت فى البحر أيضاً منذ 6 سنوات وقتل فيها 80 لبنانياً.. يتذكرها الناس الآن ليس فقط لأن سبع جثث للضحايا كانت قد انتشلت، إلاّ أنها لم تصل إلى لبنان بعد، وإنما أيضاً لأن رجل الأعمال اللبنانى الذى استأجر الطائرة وشحنها بحمولة زائدة أدت إلى الحادث لم ينل عقابه حتى الآن بعد أن تم تهريبه من مستشفى فى لبنان إلى الخارج. الآن تتجدد الآلام مع مأساة الطائرة الثانية، وأخبار البحث عن الأشلاء والصندوق الأسود تتصدر نشرات الأخبار كل ليلة على مدى أسبوعين.. الواقع أن الدسائس والشائعات والمناكفات هى التى تشغل الناس، من شائعة أن الطائرة انفجرت فى الجو دعمها تصريح متعجل لوزير الصحة، إلى أخرى تعزو الكارثة إلى صاروخ استهدف أحد قادة حزب الله قيل إنه كان بين الركاب رغم نفى ذلك، إلى اتهام للدولة بالتقصير مرة، واتهامها مرة أخرى بأنها تعمدت إطالة مدة البحث حتى يستفيد مسؤول ما من صفقة استدعاء السفن الأجنبية، إلى رواية عن تنافس بين بوارج أمريكا وفرنسا للاستئثار بالوصول إلى الصندوق الأسود قبل انتشال جثث الضحايا، إلى مقالات تتهم الأسطول الأمريكى بانتهاز الفاجعة ليرصد الساحل اللبنانى وما وراءه، استكمالاً للرصد الذى لابد أن قامت به قوات اليونيفيل الدولية، إلى اتهامات للحكومة وللصحافة بالعنصرية لأنهما وجهتا اهتمامهما للضحايا اللبنانيين دون الضحايا الإثيوبيين لأن معظمهم من خادمات البيوت.. كل يوم رواية، ورد على الرواية، ورد على الرد، يمكن التشكيك فيها جميعاً، عدا حقيقة واحدة هى أن الدولة سرعان ما تتكشف عوراتها عندما تواجه الأزمات. فى مجال الطيران وحده ها هى الدولة عاجزة عن التصرف بكفاءة فى حادث الطائرة الإثيوبية، تماماً كما كانت عاجزة عن تحقيق العدالة فى حادث طائرة كوتونو.. فى الحالتين تكرر الحديث عن أبناء لبنان الذين هجروا البلد إلى أفريقيا وغيرها بحثاً عن عيش كريم، وهو أمر عادة ما يُزعج البطريرك «صفير» راعى الكنيسة المارونية الذى دائماً ما يحذر المسيحيين من الهجرة إلى الخارج حفاظاً على وجودهم فى لبنان، وهو السبب الذى من أجله أيضاً أطلق تصريحاً مثيراً للجدل منذ أيام حرّم فيه على طائفته بيع الأراضى إلى المسلمين والأجانب.. أصبح البطريرك ذاته فى سنوات التوتر الأخيرة محل جدل بين المسيحيين أنفسهم بعد أن خرج عن طاعته رئيس أكبر كتلة نيابية مارونية، الجنرال ميشيل عون. وفى الأسبوع الماضى زاد الجنرال من جرعة التحدى أثناء الاحتفال بمرور 1600 سنة على وفاة القديس مار مارون، مؤسس الطائفة الذى عاش ومات فى سوريا، عندما أعلن أنه سيحضر قداس الاحتفال الذى سيقام فى سوريا وليس ذلك الذى سيقام فى لبنان، وذهب إلى هناك بالفعل مع الرئيس اللبنانى السابق إميل لحود ومع زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، حيث استقبلوا استقبالاً رسمياً استثنائياً أزعج البطريرك، وجدد النقاش حول نفوذ سوريا فى لبنان، وأثار الشقاق مرة أخرى بين جناحى الطائفة المارونية. لعل هذا الشقاق قد فُضح مرة أخرى أمس الأحد (أكتب هذا المقال يوم السبت) لما دعا تيار المستقبل كل لبنان للاحتفال بالذكرى الخامسة لاغتيال الرئيس الحريرى، فالمؤكد أن الزعماء الذين يمثلون الثقل الأكبر بين المسيحيين، وفى مقدمتهم ميشيل عون، سيكونون غائبين. وسيكتفى زعيم الدروز وليد جنبلاط، الذى انقلب على جبهة الحريرى مؤخراً، بوضع إكليل من الزهور على قبر الرئيس الحريرى وينسحب، وعندها ستغيب اللمسة الفولكلورية التى يضيفها البيك أينما حل وكلما تكلم.. وحتى أمس لم يكن أحد واثقاً من موقف الشيعة من المشاركة، وإن كان من المرجح أن يحضر نبيه برى زعيم شيعة أمل باعتباره رئيس البرلمان، فى حين يكتفى شيعة حزب الله بحضور رمزى. هذا شىء مؤسف مهما كان الأمر، أن يفقد لبنان مناسبتين هامتين، كذكرى اغتيال الحريرى وذكرى القديس مارون، ليلملم أطرافه المبعثرة و«يدفن الأحقاد» كما ينادى غسان توينى دائماً.