دفاع يبدو عبقرياً فعلا، ذلك التى استخدمته جريدة «الأهرام» فى تبرير الصورة المفبركة التى أظهرت الرئيس مبارك متقدما على السجادة الحمراء فى قمة واشنطن الأخيرة، بمن فيهم رئيس الدولة المضيفة.. فعلا، فإن من أهم أهداف المدرسة التعبيرية فى الفن كان التعبير الذاتى للفنان عن «الحقيقة الداخلية» التى يرصدها فى العالم الذى يحيطه وليس التصوير الموضوعى لها.. وفعلا، فقد قالت «الأهرام» إن الصورة جاءت لتعكس مثل هذا التعبير المرتبط بوجهة نظر المقال التى اعتبرت أن الرئيس مبارك يقود عملية السلام فى الشرق الأوسط. بصرف النظر عن صحة هذه الرؤية الذاتية فى حالة الصورة المذكورة – وهناك شكوك فى مدى صحتها – فلنأخذ تشبيه «الأهرام» حتى نهايته المنطقية، ونقارن الأهداف التى جعلتها تسلك هذا النهج «التعبيرى» مع الأصول الفكرية الحقيقية للمدرسة التعبيرية فى الفن. كان الهدف الأساسى للمدرسة التعبيرية هو كسر عنصر النمطية والتبعية فى التفكير المبتذل، ومناهضة كل ما هو سائد من علاقات وقيم نفعية فاقدة المصداقية، وذلك عن طريق التعبير الشخصى للفنان الذى يتحدى طغيان السلطة الثقافية والاجتماعية والسياسية فى سبيل التعبير الأصيل عن الذات.. وهذا المشروع كان يعكس مغامرة فكرية، نابعة عن حماس مثالى وشوق للتجديد الثقافى والروحى والاجتماعى، حماس نابع بالدرجة الأولى عن نظرة الشباب الذى قاد هذه الحركة.. فلنأخذ مثلا مانيفستو حركة «بروك» (وتعنى جسراً بالألمانية)، وهى ربما تمثل أهم فروع المدرسة التعبيرية، التى قدها «كريشنر» فى درزدن ثم برلين فى بداية القرن العشرين. يقول المانيفستو: «بناء على إيماننا بنشأة جيل جديد خلاق ومتذوق، ننادى كل الشباب.. لأننا كشباب نحمل معنا المستقبل ونريد لأنفسنا الحرية فى الحياة والحركة خارج الإطار التى تفرضه القوى العتيقة المسيطرة. وكل من توحى له وتقوده النزعات الأصيلة التلقائية فى اتجاه الإبداع الخلاق، فهو ينتمى لنا». فى ظل هذا التعريف، لا أعتقد على الإطلاق أنه يمكن اعتبار نهج جريدة «الأهرام»، أو نهج رئيس تحريرها أو الرئيس التى تقدم له فروض الطاعة، متماشيا مع أهداف الحركة التعبيرية.. بل على العكس فإن الجريدة مرتبطة بطريقة جذرية بال«قوى العتيقة المسيطرة» - حسب تعبير المانيفستو - والرئيس المصرى لا يمثل الشباب أو الأجيال القادمة، أو التجديد أو الإصلاح، فعلى العكس ففترة رئاسته، كما تباهى دائما، اتسمت بالاستقرار الذى وصل فى النهاية للأسف لدرجة الركود، مما أثر على مسار الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية بطريقة مخيفة، وجعل عملية التجديد فى منتهى الصعوبة، نتيجة افتقاد البلاد الكوادر والمؤسسات التى كانت من الممكن أن تقودها، وأيضا المعايير التى كان من الممكن أن يرجع إليها المجتمع لتجديد نفسه والنهوض وكسر الخمول الناتج عن مناخ يسوده العجز والركود وغياب المصداقية والجدية. ولأن من وضع صورة «الأهرام» المفبركة كان ينتمى لمدرسة فكرية تتناقد جذريا مع المدرسة التعبيرية الأصيلة فى نظرتها للعالم، فجاء الهدف من الصورة أيضا معكوسا، فوظيفة تلك الصورة المخزية لم تكن التعبير عن وجهة نظر أصيلة نابعة عن وجدان «الفنان»، بل كانت وظيفة منفعية بحتة، فالهدف منها كان الإخضاع والخداع المحسوب وليس الإيحاء بمقومات مرتبطة بصحوة نابعة عن التعبير الصادق الذى يصاحب «النزعات الأصيلة التلقائية». ثم إذا كان الهدف المعلن من الصورة والمقال المصاحب لها هو التعبير عن ريادة مصر، فربما يمكن أيضا هنا التعلم من تجربة الحركة التعبيرية فى ألمانيا.. ففى بداية القرن العشرين كانت ألمانيا تعتبر - بمعظم المقاييس الحضارية - الدولة الأكثر تقدما فى العالم، وكان من الممكن أن يكون القرن العشرين هو «القرن الألمانى»، فألمانيا كانت فعلا معقل أعظم العلماء والمفكرين والفنانين فى مطلعه. مع ذلك أنهار العالم الألمانى فى منتصف القرن، ولم يكن تدمير الريادة ألمانياً فقط نتيجة للحروب الخاسرة، إنما بالدرجة الأولى للقمع والتفكيك المتعمد الذى تعرضت له الثقافة الألمانية فى ظل حكم النازى، الذى منع فنانى المدرسة التعبيرية من الرسم، وسحب لوحاتهم من المتاحف، لأن إبداعهم كان «غير ألمانى ومنحطاً» فى نظره، وأغلق مدارس الفن الخلاّق الأخرى مثل ال«باوهاوس»، وفصل معظم الأكاديميين المعارضين وكل اليهود منهم، مما أدى إلى هجرة الخبرات الأكاديمية، ومعهم الكثير من الموسيقيين والعلماء - منهم أمثال أينشتاين - وأيضا الكتاب والمفكرين المستقلين. والكثير منهم انتحر فى النهاية، ومن بين هؤلاء كان «كريشنر»، رائد التعبيرية. بعد الحرب، تمكنت ألمانيا من استعادة ريادتها الاقتصادية بعض الشىء، لكنها لم تتكمن من استعادة ريادتها ومكانتها فى المجالات الثقافية والفكرية والعلمية بالكامل حتى الآن، لأن إعادة بناء القواعد الفكرية أصعب بكثير من النهوض الاقتصادى السطحى. وفى ذلك درس مهم لنا فى مصر، التى قمعت فيها السلطة حرية التعبير والفكر، وخضعت لابتزازات التيارات الظلامية شبه الفاشية، بل شجعت نهجها فى بعض الأحيان، وطفشت وهمشت العلماء الجادين، حتى انهارت حياتنا الثقافية، التى كانت تشكل أهم مقومات الريادة المصرية.. ولا أعتقد أنه يمكن التعويض عن هذا التراث المؤسف من الانهيار عن طريق الصور المزيفة.