قد يبقى الضيف فى بيتك ساعة أو يوماً أو شهراً أو حتى سنة، ولكن أن يبقى 14 قرناً وتعتبره ضيفاً فهو أمر خارج المنطق والعقل.. هذا ما قاله الأنبا بيشوى، سكرتير المجمع المقدس وأحد قيادات الكنيسة النافذين، بخصوص المسلمين فى مصر، حين ذكر تعليقاً على مطالبة الكثيرين بتدخل الدولة فى الأمور الإدارية، وليس الدينية، للكنيسة: «نسوا أن الأقباط هم أصل البلد، نحن نتعامل بمحبة مع ضيوف حلّوا علينا ونزلوا فى بلدنا واعتبرناهم إخواننا». هكذا وبكل بساطة وبعد 14 قرناً من مجىء «الضيوف» مازال البعض يرفض أن يعتبرهم أيضا أصحاب بيت، ويتحدث عن أصحاب البلد الأصليين وضيوف ثقال، وفق حجج لا علاقة لها بالعلم ولا حتى أبسط قواعد اللياقة والحصافة السياسية. والمؤكد أنه لا يوجد فى العلم شىء اسمه شعب نقى، ولا ثقافة نقية، ولا يوجد مجتمع أوروبى أو شرقى لم يشهد عبر تاريخه تحولاً فى ثقافته ودينه ولغته وعاداته عبر الزمن، ومستحيل أن نجد مجتمعاً إنسانياً واحداً لم تتغير لغته وجغرافيته وحدوده، وأحياناً كثيرة ديانته، لأربعة قرون وليس أربعة عشر قرناً. فهل يعرف الأنبا أن مجتمعات رفاهة مثل البلاد الاسكندنافية لا جرائم فيها ولا حوادث عنف، كان يعيش عليها فى فترات سابقة «الفايكنج» قراصنة البحار قساة القلوب؟ وهل هناك عاقل فى الدنيا يمكن أن يطالب الهنود الحمر فى أمريكا «أصحاب البلد الأصليين» بأن يعودوا ليحكموا أمريكا، ويطردوا «الضيوف» الذين لم يتجاوز عمرهم قرنين فقط؟.. وهل هناك مسلم عاقل أو مؤسسة دينية إسلامية واحدة يمكن أن تطالب بعودة إسبانيا إلى أهلها الأصليين من المسلمين الذين شيدوا حضارة عظيمة فى الأندلس، وانهزموا نتيجة انقسامهم أمام المسيحيين الذين استعادوا الأندلس بقوة السلاح ومحاكم التفتيش؟ لقد تغيرت إسبانيا منذ أربعة قرون وصارت أولا مسيحية ثم أصبحت علمانية، وصنعت تراكمها الثقافى وهويتها الجديدة التى لا يمكن إلغاؤها الآن، لكونها، فى يوم من الأيام، كانت بلداً إسلامياً. بالتأكيد أن مصر كانت قبطية وقبلها كانت فرعونية وعاش فيها اليهود، ثم جاء «الضيوف» وعاشوا 14 قرناً وظلوا فى عرف بيشوى ضيوفا، فى إعلان واضح عن موقف غائر فى التعصب. صحيح أن الفتح الإسلامى لمصر كان له جانب «إمبراطورى» قام على الفتح العسكرى الذى ارتكب أخطاء كثيرة، ولكن كان له أيضاً جانب رسالى وعقيدى جعل معظم المسيحيين يتحولون إلى الإسلام، وكلهم يتعلمون العربية، وكثير منهم تزوجوا من هؤلاء الوافدين الجدد. لا يمكن تجاهل حدوث تمييز بحق الأقباط طوال تجربة العيش المشترك مع المسلمين، ولكن أهم إسهام قدمته الحضارة الإسلامية هو القبول بوجود الآخر الدينى، وهو أمر لم يكن واردا فى الحضارة الغربية التى قامت على استئصال الآخر فى كل تجاربها المشابهة. أخطأ الأنبا بيشوى خطأ جسيماً، وتحدث بلغة خارج العلم والعقل معا ببراعة نادرة، وفتح الباب أمام دعوات إسلامية متعصبة تزيد من الاحتقان الطائفى الحالى.... فهل هذا هو المطلوب؟ [email protected]