يبدو المكان مناسباً جداً لتصوير فيلم سينمائى.. خط سكة حديد يمر فوقه القطارات ومجرى مائى «رياح» يفصل بين الخط والعمران ومعدية صغيرة تخترق «الرياح» لتكون همزة وصل بين الضفتين وصحراء كئيبة تخلو من كل شىء إلا الملل وسجن عمومى وأخيراً مبنى متواضع من دور واحد يطل على كل تلك التفاصيل، يسكنه عامل بسيط أجبرته ظروف عمله على أن يمضى ليلة فى المكان.. عيناه على لوحة تشغيل القطارات، وأذناه معلقتان برنين يصدر من تليفون بدائى إلى جواره يتابع منه خط سير القطارات، أما يداه فجاهزتان للضغط على أزرار اللوحة فى سرعة خاطفة لأنه يعلم ماذا يحدث لو غفل عنها ثانية واحدة: «ساعتها ممكن تحصل كوارث فى السكة، والناس حياتها تصبح فى خبر كان». ربما لهذه الأسباب مجتمعة اختار الكاتب الكبير وحيد حامد، مكاناً شبيهاً بذلك المكان ليكون محور أحداث فيلم «المنسى».. وهو واحد من أهم أفلامه على الإطلاق، جاعلاً من ملاحظ البلوك «يوسف المنسى» عادل إمام بطلاً للفيلم، يبدأ يومه حينما يحل موعد نوم الآخرين، يقضى الليل مستيقظاً وسط تفاصيل مملة وكئيبة تدفعه لأن يخلق لنفسه عالماً موازياً فى خياله، ورغم المحاولات الكثيرة التى تدور فى الفيلم لإخراجه من عالمه، إلا أنه يعود إليه فى النهاية جالساً على الكرسى وأمامه لوحة التشغيل وأذناه معلقتان برنين التليفون. هذا هو واقع مراقب البرج أو ملاحظ البلوك الذى التقينا به، ويبدأ ورديته فى السابعة صباحاً حتى السابعة مساء حاملاً فى إحدى يديه جركن مياه بعد انقطاع المياه عن برج المراقبة منذ 21 يوماً، واليد الأخرى تحمل حقيبة بلاستيكية تحتوى على ساندويتش فول وآخر طعمية هما الوجبة الوحيدة التى يتناولها طوال ورديته التى تصل إلى 12 ساعة متواصلة. يستقل مراقب البرج المعدية التى تكلفه 50 قرشاً للمرة الواحدة، وهى الوسيلة الوحيدة التى يستطيع من خلالها الانتقال إلى مكان عمله ليدخل إلى مبنى برج المراقبة ويتسلم الوردية من زميله، والمبنى عبارة عن طابق واحد تشققت جدرانه وتهالكت أبوابه الخشبية ومكون من 3 غرف الأولى تحتوى على مكتب متهالك قام بوضع قوالب طوب أسفله منعاً لوقوعه، وضع عليه «لوحة تشغيل القطارات» الخاصة بمسير القطارات على السكة، و«سويتش» عبارة عن تليفون بدائى يصله بمراقب البرج فى المحطتين الأمامية والخلفية، وجهاز لاسلكى يصل بينه وبين المراقبة المركزية، إلى جانب أريكة خشبية تآكلت الطبقة الإسفنجية بها، وكرسى مكسور وحصيرة متسخة هى وسائل الراحة المتاحة لعامل برج المراقبة المسؤول عن سير حركة القطارات. الغرفة الثانية بها صالة «الباور» الخاصة بتشغيل لوحة الكهرباء، أما الثالثة بها صالة «الريليهات» الخاصة بتشغيل السيمافورات، ويوجد دورة مياه غير آدمية، امتنع عمال البرج عن دخولها بعد انقطاع المياه عن المبنى. الحصول على مياه نظيفة حلم لايزال يراود مراقب البرج منذ عمله بالمنطقة قبل 25 عاماً، فكثيراً ما تنقطع المياه على مدار الشهر وحين تصل إليهم تكون ملوثة وهذا ما جعله يحتفظ ب«جركن» مياه وغالباً ما تتعكر مياهه بالأتربة والشوائب من الجو المحيط به. «مش أى حد يشتغل مراقب برج» لأنه مايسترو السكة الحديد»..هكذا قال مراقب البرج، وأضاف: «المراقب لابد أن يكون خريج معهد وردان، وكان زمان ممكن يشتغل بالإعدادية، بعدها تقوم الهيئة بتدريبه 6 شهور فى المناطق المركزية بمحطتى مصر وبولاق الدكرور ويتم تدريبه على الخطوط الزوجية والمفردة وأحواش قطارات البضائع، ويتم اختباره بعد تدريبه ولو نجح فى الامتحان يتدرب مرة أخرى 15 يوماً فى المحطة التى سيقوم بالعمل فيها، وإن لم ينجح فى الامتحان يتم تدريبه مرة أخرى 6 شهور». ويذكر مراقب البرج أنه يحمل العديد من المهام الصعبة التى لا يستطيع أحد غيره القيام بها، ورغم ذلك فحقوقه «مهدرة» من المسؤولين بالهيئة، ومن أهم تلك المهام تنظيم حركة مسير القطارات على السكة وإخلاء السكك من المحطات الأمامية والخلفية، ومتابعة إشارات السيمافورات وتشغيلها للعمل على تنبيه السائق بالسرعة المقررة له فى حالة حدوث عارض والمفاضلة بين القطارات التى يجب أن تمر، فمن الممكن أن يقوم عامل البرج بحجز قطار الركاب لمرور قطار الإكسبريس أو حجز قطار الإكسبريس لمرور قطار الديزل، بالتنسيق مع المراقبة المركزية، إلى جانب العمل على حل المشكلات التى قد تحدث بين أحد الركاب والكمسارى أثناء توقف القطار فى المحطة. مواقف صعبة يتعرض لها مراقب البرج الذى لا يستطيع ترك عمله فجأة منعاً لوقوع حوادث، وبنبرات حزينة يتذكر مراقب البرج أصعب المواقف التى تعرض لها خلال عمله فى هيئة السكة الحديد عندما مرض ابنه «البكرى» وهو لم يتجاوز العام من عمره، وارتفعت درجة حرارته لتصل إلى 40، ولم يستطع البقاء بجواره وتركه بصحبة والدته، واضطر للذهاب إلى عمله لتسلم ورديته، ليعود فى اليوم التالى ويجد ابنه فارق الحياة، ويؤكد بهذه الرواية أن السكة الحديد أخذت منه الكثير ولم تعطه فى المقابل أى شىء. «حوادث القطارات مثل حادث العياط ليست مسؤولية مراقب البرج وحده بل يشترك فيها سائقو القطار ومشرف برج المراقبة المركزية».. هذا ما أكده عامل مراقب البرج، الذى طلب منا عدم نشر اسمه، وأضاف: «مسؤولية حادث العياط تقع على سائق القطار المعطل رقم 152 الذى لم يقم بوضع حماية كبسولات الأمان على شريط القطار، وسائق القطار القادم رقم 188 الذى تجاوز جميع السيمافورات، ومراقب البرج الذى ترك عمله دون تسليم ورديته إلى زميله، إلى جانب مشرف برج المراقبة المركزية الذى من واجبه تتبع حركة مسير القطارات إلا أنه ترك عمله. عدة خطوات يجب على مراقب البرج اتباعها عند حدوث عطل فى الجرار يتسبب فى توقف القطار يشرحها قائلاً: «فى حالة حدوث عطل فى أحد الجرارات أقوم بإبلاغ المراقبة المركزية بمحطة مصر بوجود عطل فى أحد القطارات، وأرسل إمداداً إلى القطار المعطل لشد الجرار وإخلاء السكة للقطارات القادمة، منعاً لحدوث تصادم مع القطار الواقف، وإعطاء إشارة لسائق القطار القادم بوجود عطل أمامه لتنبيهه بضرورة تهدئة السرعة والوقوف». ويصف مراقب البرج حاله بأنه على «كف عفريت» قائلاً: «أعمل مراقب برج منذ 25 عاماً وأتقاضى 900 جنيه بالحوافز والامتيازات شهرياً، ومن الممكن خصم ثلثى الراتب فى حالة تشريكى، رغم أن الهيئة تقوم بالكشف علىّ طبياً قبل تسلمى العمل، وتقوم بإعادة الكشف كل 3 سنوات قبل وصولى سن 40 ومرة كل عام بعد سن الأربعين، إلا أنه فى حالة إصابتى بأحد الأمراض المزمنة، تلقى بى فى أحد الأعمال الإدارية وتحرمنى من جميع حقوقى فى بدل السكن، وحوافز الوزير وطبيعة العمل والإضافى».