الولايات المتحدة تؤكد تغييرها سياساتها تجاه الخرطوم لتعتمد على سياسة العصا والجزرة بدلاً من سياسة العقوبات الاقتصادية والتهديدات بتحركات عسكرية خاطفة، والسودان يعلن تأييده للخطوات الأمريكية بما يوحى بتغير كبير فى العلاقة المتوترة بين الخرطوموواشنطن منذ ما يزيد على العقد من الزمان. وعلى الرغم من إعلان واشنطن عن سياسة جديدة، فإنه من الواضح أن هذا التغير سيبقى محدودا، خاصة أن الرئيس الأمريكى أصر على عدم رفع العقوبات عن السودان على الرغم من البدء فى تطبيق السياسات الجديدة، وكان جل ما عرضه على السودانيين استعداده للحوار معهم. وعلى الرغم من أن الخرطوم رأت فى عدم فرض مناطق حظر طيران فى السودان تقدما لافتا، ولاستبعاد فكرة التدخل العسكرى من الاستراتيجية الأمريكية فإن هذا لا ينبغى أن يكون مضللا، فرفع حظر الطيران عن الجنوب السودانى لم يتأت إلا بعد أن أصبح الجنوب قويا وقادرا على أن يدافع عن «سمائه» إذا أصبحت كذلك فى استفتاء 2011، كما أن العمليات العسكرية التى تم تنفيذها فى السودان لم تكن بحاجة لإدراجها بشكل صريح فى استراتيجية خارجية، لأنه كان يجرى تنفيذها بشكل خاطف، وليس فى صورة عملية عسكرية مستمرة. ويبدو التحول الأخير فى السياسة الأمريكية بأنه سينقلها إلى نفس الخانة مع إيران، بمعنى أنه سيُبْقِى على الضغوط عليها كما هى، ولكنه سيفتح لها نافذة للحوار يظهر من خلالها الطرف الأمريكى قدرا من المرونة فى الحوار بما يسمح للسودانيين بتقديم التنازلات التى لم يكونوا ليقدموها فى ظل إحساسهم بالعزلة الشديدة. فالنظام السودانى أبدى رفضا شديدا لجميع الطلبات الأمريكية فى الآونة الأخيرة بدءا بتسليم المسؤولين السودانيين إلى محكمة الجزاء الدولية، امتدادا للطلبات المتعلقة بملف حقوق الإنسان، انتهاء بالضغوط الأمريكية لتغيير طبيعة العلاقة مع الجنوب ودارفور، بما جعل من المحتم على الولاياتالمتحدة أن تغير الأسلوب سعيا للوصول إلى نفس النتائج باستخدام وسائل مختلفة. فالولاياتالمتحدة لم تغير بعد شيئا عمليا فى سياساتها ضد حكومة الشمال، فمازالت تدعم الجنوب فى مواجهة الشمال، وتضغط بقوة للحصول على استجابة أفضل من الخرطوم تجاه محاكمات دارفور مما سيُبْقِى على الخلاف بين الطرفين كما هو وإن تولدت فرصة بأن تبدو العلاقات أقل حدة «ظاهريا». ولاشك أن بقاء الورقة الأهم للمساومة بين الطرفين، وهى مثول الرئيس السودانى عمر البشير أمام الجنائية الدولية، سيجعل الولاياتالمتحدة فى موقف أفضل فى أى حوار مستقبلى بين الطرفين، إذ سيكون بوسعها المطالبة بما شاءت نظير رفع ضغوطها عن رأس النظام السودانى، لذا فقد يشكل الحوار متنفسا للولايات المتحدة لتحصد المزيد من التنازلات السودانية. ويمكن النظر إلى الخطوة الأمريكية الأخيرة على أنها جزء لا يتجزأ من حملة العلاقات العامة التى بدأتها إدارة أوباما لتحسين صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية فى العالم كله، خاصة العالم الإسلامى، خاصة أنها خطوة لن تؤدى إلى أى تطورات عملية وغاية ما ستفضى إليه هو المزيد من الضغوط على السودان لكى يقدم المزيد من التنازلات خوفا من انغلاق نافذة الحوار التى طالما أرادها السودان بحثا عن قدر من الشرعية الدولية لنظامه القائم.