تزور القاهرة حالياً، السيدة «تاريا هالونين» رئيسة فنلندا، التى تقع فى أقصى شمال أوروبا، ضمن مجموعة دول يطلق عليها العالم اسم: الدول الإسكندنافية! السيدة الرئيسة وصلت إلى الرئاسة فى 1 مارس 2000، وهى الرئيس الحادى عشر لبلادها، وأول سيدة تشغل هذا الموقع، ومتزوجة من أستاذ قانون، وعندها ابنة عمرها 31 سنة، وكانت وزيرة للخارجية والعدل، وتبلغ 61 سنة، وهى تقرأ، وترسم، وتذهب إلى المسرح، وتمارس الرياضة! أجرى معها الأستاذ أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام، حواراً نشرته الصحيفة، أمس الأول، وكان فيه كلام كثير مهم، ولكنى توقفت عند الأهم على الإطلاق، حيث سألها فقال: فنلندا بعدد سكانها البالغ خمسة ملايين، وبعمرها القصير نسبياً «91 عاماً من الاستقلال» استطاعت أن تصل بإجمالى ناتجها المحلى إلى ما يساوى إجمالى الناتج المحلى لعدة دول نامية مجتمعة.. كيف استطعتم ذلك؟! وقد كان المتوقع أن تعود السيدة الرئيسة إلى ماضى بلادها، فتستعرضه، مرحلة وراء مرحلة، ثم تتوقف أمام الرؤساء العشرة الذين سبقوها، فتقول إن فلاناً منهم قد حقق كذا، وإن علاناً قد أنجز كذا، إلى أن تصل إلى تسع سنوات لها فى الحكم فتقول ماذا فعلت هى! كل ذلك لم يحدث، ولا شىء منه، وإنما أجابت السيدة الرئيسة على السؤال بكلمة واحدة، ثم كررتها ثلاثاً.. قالت: التعليم.. ثم التعليم.. ثم التعليم! ويبدو أن الإجابة كانت مفاجئة للأستاذ سرايا، وأنها فتحت شهيته لسؤال أكبر، فقال: هناك دول كبرى متقدمة مثل بريطانيا، وألمانيا، واليابان، ترسل خبراءها للاستفادة من الخبرة الفنلندية فى التعليم.. فما هو سر هذا التفرد فى التعليم عندكم؟! ويبدو أيضاً أن السيدة الرئيسة، وهى تسمع السؤال، قد قالت لنفسها: مادام الأمر كذلك، ومادام الموضوع يهمكم هكذا، فتعالوا إذن واسمعوا! قالت: كثيرون يعتقدون أن هناك سراً فيما حققناه، ولكنى أؤكد أنه لا سر مطلقاً فى الموضوع، وإن الحكاية كلها هى أن التعليم احتل أولوية أولى لدى حكومات البلد المتعاقبة، وحين حدث هذا فإن المجتمع الفنلندى قد تماسك وأصبح قوياً، ولم يكن التعليم عندنا مجرد دروس يتلقاها الطالب فى المدرسة حشواً برأسه، وإنما أضفنا إليه وجبات غذائية، ورعاية صحية شاملة، وكان التعليم الأساسى أى ما قبل الجامعة ولا يزال مجانياً بالكامل، وليست لدينا مدارس خاصة، وإنما كلها مدارس حكومية، ويذهب أولادى، وأولاد غيرى من المسؤولين، مع غيرهم إلى المدارس الحكومية، سواء بسواء، وما يتعلمه الطالب فى «هلسنكى» العاصمة، هو نفسه ما يتلقاه أى طالب فى أى قرية نائية، ونضع الاهتمام بالمعلم أمام أعيننا فى كل لحظة، ونعلم أبناءنا احترام المعلمين الذين تحظى مهنتهم باحترام هائل فى مجتمعنا، رغم تدنى أجورهم، وقد كان سلفى الرئيس «اهتيسارى» مدرساً فى بدء حياته، وننفق على التعليم 6٪ من إجمالى ناتجنا المحلى! ولا أعرف ما إذا كان على جدول زيارتها، لقاء مع الدكتور حسام بدراوى، رئيس لجنة التعليم فى الحزب الوطنى، مثلا، أو مع الدكتور شريف عمر، رئيس لجنة التعليم فى البرلمان، لنرى ماذا عندها، وترى هى ماذا عندنا، ولكن ما أعرفه أن الأمر، كما قالت، ليس فيه إعجاز من أى نوع، ولا خوارق للطبيعة، وإنما دولة مثلها مثل سنغافورة، أو ماليزيا، أو غيرهما، قررت أن يكون التعليم فيها له أولوية مطلقة، فكان لها ما أرادت، وقررنا نحن فى القاهرة ألا يكون التعليم أولوية مطلقة، فكان هذا هو حالنا!