من أين يأتى كل من فى مصر بهذا اليقين فى كل مايقولونه ويعتقدونه إذا كان رب العزة فى كتابه الكريم لم يصف شيئا بأنه اليقين إلا الموت؟.. «فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين».. تستطيع بسهولة أن تربط هذه الآية الكريمة بعشرات الآيات التى تحث على التفكر والتدبر وتعلى من شأن التعقل والتبيّن، وتستطيع أن تربط كل تلك الآيات الكريمة بمقولات جليلة صارت قواعد ذهبية فى التراث الإسلامى مثل «القرآن حمّال أوجه»، و«إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»، و«كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر»، وتضع كل ذلك فى إطار الآية الجليلة التى تقول «فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه»، وهى آية تفيد صراحة أن الحق فى حد ذاته مختلف ومتعدد بين الذين آمنوا. لكن المشكلة أنه لا أحد يريد أن يقتنع بشىء من كل هذا، الكل جاهز بيقينه فى جيبه يشهره فى وجهك كلما اختلفت معه حول شىء أو أعلنت له شكّك فى شىء أو حدّثته عن التفاصيل التى يكمن فيها الشيطان. ليس لدى الكثيرين استعداد أن يقنعوا باتفاقك معهم على بعض الأشياء واختلافك معهم فى البعض الآخر، الكل يريدك أن تكون نسخة منه لكى يبدى إعجابه بك ويعطيك صك غفرانه، يفرح لأنك تعارض نظام مبارك لكنه يلعنك عندما تقول له إنك لا تحب الشيخ الفلانى أو الواعظ العلانى، وينسى أنك تحب علماء أجلاء أمثال يوسف القرضاوى ومحمد الغزالى ومحمد سليم العوا لم يكونوا مطية للحكام يوما ما ولم يساهموا فى تغييب عقول الناس ولم يدعوا الى التطرف والعنف، لا.. لابد أن تأخذ المجموعة كاملة، مجموعة من يحبهم لكى تنال حبه هو أيضا، تدافع عن حرية الإخوان المسلمين وتعترض على اعتقالهم، فيهللون لك، لكنك عندما تقول إنك تعارضهم وتكره كثيرا من أفعالهم وأنهم أصبحوا عبئا على مصر بدلا من أن يكونوا حلا لها، تنهال عليك اللعنات كأنك أنت الذى اعتقلتهم وضربتهم بالهراوات، يعنى الأمن لن يرضى عنك لأنك تعترض على اعتقاله للإخوان، والإخوان لن يرضوا عنك لأنك لم تعلن ولاءك وحبك لهم، وفوق كل هذا يواجهك دوما سؤال بليد هو أكثر الأسئلة مبيعا فى مصر «يعنى انت لا مع الحكومة ولا مع الإخوان.. ولا إنت ناصرى ولا ساداتى.. أمال انت مع مين». هذا هو السؤال القاتل فى مصر ولمصر، الكل يريد أن يعرف إنت مع مين، الكل يريد أن يريح نفسه بتصنيفك، يريد أن يضعك فى ملف ويكتب عليه اتجاهك لكى لايتعب نفسه بالتفكير فيما تقوله، لأنه لو فكّر فيما تقوله ووجده مختلفا مع رأيه سيقلق إذا لم يجد تفسيرا لهذا الاختلاف، وعادة مايكون التفسير «آه هو بيقول كده أصله اخوان.. أصله مباحث.. أصله ناصرى.. أصله عميل أمريكانى .. أصله معارض.. بالنقطة طبعا، فالحكاية لم تصل إلى هذا الحد والحمد لله»، دائما التصنيف جاهز ودائما هو قابل للتشريك..اتصل بى قارئ غاضب «ياأخى حيرتنى معاك.. ساعات ألاقيك بتكتب فى الدين وتهاجم سيد القمنى وأحس إنك إسلامى.. وفى نفس المقالة ألاقيك بتقول إنك ضد مصادرة كتبه وكمان بتشكر فى نصر حامد أبو زيد وتنحنى إعجابا لصموده من أجل التعبير عن حرية رأيه ودفعه ثمن هذا الرأى برجولة وشرف.. بتعارض الرئيس وحزبه وبرضه بتتريق على قيادات أحزاب المعارضة.. إنت إيه نظامك من الآخر»، قلت له «أنا ببساطة كأى مواطن مصرى سوىّ، وسوىّ هذه أصبحت ميزة نادرة فى هذه الأيام غير السوية، وإذا كنت ستعتبر أننى بها أشكر فى نفسى وما يشكر فى نفسه إلا إبليس، دعنى أقل لك إننى كأى بشر خلقه الله، يحب أشياء ما فى كل شخص ويكره أشياء ما فى نفس الشخص، يقتنع بأفكار البعض ويرفض بعض أفكارهم، ياعزيزى الناس غير قابلين للتصنيف، لأن الناس ليسوا أشياء، ولأن كل إنسان هو نسيج وحده، كل إنسان هو حالة مختلفة عن من يقفون معه فى نفس الصف السياسى أو الفكرى، ولذلك ستجد إسلاميين يعشقون أم كلثوم ويموتون فى فيروز، وستجد يساريين يحبون الثقافة الأمريكية، وستجد وفديين يحترمون عبدالناصر ويعرفون كيف يختلفون معه وعليه، لكنك فى كل الأحوال لا يجب أن تجد أحدا سويا يحب المنافقين والأفاقين والظلمة والفاسدين والمحتلين لأماكن لا يستحقونها والحالمين بوراثة أماكن محتلة لا يستحقونها، ومع ذلك ولأن الإنسان فى خسر ستجد من يعلن حب هؤلاء»، زادت حيرته وقال لى «يعنى لما ييجى الأمن يحط الملف بتاعك فى الدولاب المفروض يختار أنهى دولاب»، قلت له: هذا سؤال تسأله للمسؤول عن الدواليب لكننى أنا شخصيا أتمنى أن أوضع دائما فى دولاب مكتوب عليه «مش بتاع حد». * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]