الأبوة أساساً تضحية، ولذلك قررت أن أصطحب ابنتى إلى المدرسة لكى نشهد سوياً وقائع الاحتفال التاريخى بأول يوم دراسى لها فى سنتها الأولى الابتدائية، كان من الواضح أن ابنتى مقدرة لتضحيتى التى جعلتنى أؤجل موعد نومى من السابعة صباحاً إلى التاسعة صباحاً خصيصاً من أجلها، ولذلك كانت تزغدنى كل دقيقتين «بابا انت هتنام ولا إيه»، عندما حاولت أن أتغلب على رغبتى الجارفة فى النوم بترديد نصائح الوقاية من أنفلونزا الخنازير وجدت أن ابنتى تحفظها عن ظهر قلب وتؤديها بنفس طريقة ونبرة مذيعى إعلانات وزارة الصحة، بل وأخرجت لى من حقيبتها مصداقاً لكلامها الكمامة والصابونة المطهرة والمناديل المطهرة وبخاخ الأسطح المطهر، حتى إننى توقعت أن تخرج بالمرة مصل أنفلونزا الخنازير الذى لم تأت به الحكومة بعد. «أنا كنت عارفة إنك هتعمل كده يابابا»، قالتها لى ابنتى قرب باب المدرسة بخيبة أمل كانت واضحة برغم تغطية الكمامة لأغلب معالم وجهها الجميل، «إزاى تنسى الكمامة بتاعتك.. افرض إنك عَديت حد من زمايلى.. نبقى عملنا إيه؟»، صوتها العالى المتحمس جعل المنطقة المحيطة بنا تخلو من البشر فى لحظات، فقد ظن الذين استمعوا إلى كلامها أننى هربت من حميات العباسية لكى أحضر هذه اللحظات السعيدة، اضطررت للجوء إلى المنطق الذى أحسم به كل نقاشاتى مع عقلها المصمم ضد الازدواجية «بس يابت بلاش لماضة»، لم أكن قد أعطيتها المصروف بعد، ولذلك بدا كلامى مقنعاً، اتجهنا سوياً إلى باب المدرسة ونحن نتمتم بآية الكرسى والمعوذتين والفاتحة، ولولا قصر المسافة لقرأت سورة يس والسبع المنجيات، اكتشفت أن إفراطى فى الشحن المعنوى جعل ابنتى تتعامل مع كل طفل يمر إلى جوارنا بوصفها خطراً محتملاً، لم تعد حريصة فقط على عدم الاقتراب من أقرانها، بل أصبحت تقريباً تمشى بالورب لكى لا يصطدم كتفها بأى جزء آدمى، أشفقت على فلذة كبدى من نظرات السخرية التى ارتسمت فى عيون فلذات أكباد الآخرين، فملت عليها قائلاً «على فكرة يا حبيبتى الأنفلونزا مش بتتنقل بلمس الأكتاف.. هو الخطر فى الإيدين أكتر»، نظرت إلىّ بابتسامة من ترثى لجهلى البَيِّن وقالت: «طب افرض إن فى حد عنده أنفلونزا عطس على كتف حد تانى والكتف ده لمسنى مش كده أنا لو لمست كتفى بعدها ممكن أتعدى». باغتنى الندم وكدت أهوى باكياً على الأرض مستغفرا ربى لما فعلته أنا والمجتمع والناس بمشاعر هذه الطفلة التى ألومها الآن لمبالغتها فى ردود أفعالها، متناسيا أنها تعرضت لكميات مهولة من إشعاع التحذيرات كافية لأن تجعل جبال الإنديز متصدعة من خشية المرض. على باب المدرسة استوقفنا رجل جاد الملامح حاد النظرات يحمل فى يده عبوة بها صابون سائل، أشار لنا بطرف عينيه إلى أيدينا فمددناها إليه طائعين، بخ علينا الذى فيه النصيب، ثم قال لنا بلهجة ماريشالية: «ادعكوا إيديكو»، ونحن امتثلنا ودخلنا مبتهجين لأن الفيروسات لا يمكن أن تدخل مدرسة يقف على بابها حارس عتيد مثل «عمو البخاخ» كما أسمته ابنتى. لم تكن المدرسة مزدحمة كما توقعت فخمنت أن أغلب الأهالى فضلوا أن يحتفلوا بهذا اليوم التاريخى مع أبنائهم فى البيت، لم أكن أعرف أننا وصلنا متأخرين عن موعد المدرسة نصف ساعة، «مدارس آخر زمن التى تبدأ الحصة الأولى فى السابعة والنصف، لعنة الله على التعليم وسنينه»، قلت ذلك فى سرى قبل أن أحكم قناع الوعظ على وجهى وأفتح صفحة «فضل الصحيان بدرى» وأقرأ منها ما يذكر ابنتى بأن الرزق فى البكور وأن الاستيقاظ مبكراً يتيح لنا فرصة شم الهواء النقى الذى تفرزه طبقة الأوزون التى خرمها رجال الأعمال أعضاء أمانة السياسات، وهى العظة التى تنتهى عادة بسؤال ابنتى لى «طيب يا بابا انت ليه مابتنامش بدرى وبتسهر طول الليل؟»، وهو السؤال الذى ألهمنى الله بإجابة محكمة له «عشان ما آخدش نصيبك فى الأوزون يا حبيبتى.. الأبوة أساساً تضحية». أدخلت ابنتى إلى فصلها الذى كان شبه خاو على كراسيه، أخذت المدرسة تنظر لى مستغربة وأنا أوصل ابنتى إلى كرسيها كأنها مسافرة إلى الجبهة، وسط نظرات الحسد المنبعثة من شرذمة من زملائها الذين قرروا مواجهة أنفلونزا الخنازير، قبل أن أميل عليها وأقول بحنان مسرحى: «اوعى حد يلمس كتفك». عدت إلى البيت راضياً عن نفسى، وما هى إلا ساعة أو قل ساعتين حتى شعرت بأعراض الأنفلونزا تداهمنى، أعرف هذه العطسة التى تسمع فى القفص الصدرى جيداً، أزحت الخنازير التى تتراقص أمام عينى، وجريت نحو الموبايل لأتصل بالمدرسة وأطمئن على ابنتى محاولاً تبين الثغرة التى نفذت منها الأنفلونزا، وحامداً الله على أننى بادرت بتطعيم ابنتى بلقاح الأنفلونزا الموسمية، وسط رنين الجرس تبين لى من أين داهمتنى الأنفلونزا، إنه رجل البخاخة، من فرط حرصه على أن ندعك أيدينا، نسى وعطس فى وجهى. يرحمنى الله. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]