حل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ضيفا على قناة «الجزيرة» فى حلقتين متتاليتين، عرضت الحلقة الأولى منهما أمس الأول وتحدث فيها عن أبرز مراحل المشهد العربى الراهن وممارسات إسرائيل فى المنطقة ووصف المرحلة الحالية التى يعيشها العرب بأنها «المرحلة الإسرائيلية» وقال «العرب هاجروا من قضاياهم ومستقبلهم، والمواطن العربى يعيش فى إحباط فى ظل الأوضاع الاجتماعية الحالية وضياع فكرة التنمية وغياب الاستقلال». وأكد هيكل أن الأزمة ليست فى قضية «فلسطين» فحسب بل يجب الوضع فى الاعتبار ما قاله بن جوريون «لايحدد أحد حدود إسرائيل، فحدود الدولة اليهودية حيث تتمركز دبابات الجيش الإسرائيلى». واهتم هيكل بتحليل الأمر سياسيا وتاريخيا، واعتذر أكثر من مرة لمذيع الحوار عن إطالته بسبب تحليله التاريخى وقال له مداعبا «اعذر إطالتى لكن لو أن للصبر حبوبا لابتعت لك علبة». ■ كيف يمكن أن تكون ملامح المشهد العربى الراهن؟ - نريد أن نتبع فى هذا الحوار مدرسة حديثة فى الصحافة التى لم تعد مصدر الأخبار، لأن أوجه البث المختلفة من الإنترنت والموبايل والفيس بوك تنقل الأخبار، فأصبح مثل الطوفان للمشاهد، فللصحافة دور أهم، والقارئ يعلم بالطبع لكن يجب أن يوضع له سياق لهذه الأخبار، لذلك يجب أن نتبع ذلك فى وصف المشهد الحالى للموقف العربى، ولوصف هذا المشهد يجب معرفة المراحل التى مر بها المجتمع العربى وأولاها كانت فى الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، التى دخلناها وخرجنا منها ونحن نظن أن الموضوع كله فلسطين رغم أن القضية ليست كذلك، ففى عام 1949 اكتشفنا العكس عندما أقدمت إسرائيل خلافا للخطة الموضوعة، حينما بدأت احتلالها لأم الرشراش، وهى لحظة انقسم فيها المجتمع العربى، وأتذكر أن حسن يوسف باشا أمسك فيه بتصريح ل«بن جوريون» يقول فيه ردا على الأممالمتحدة «لا أحد يحدد لإسرائيل حدودها» ، فالجيش الإسرائيلى يحدد هذه الحدود بقدر ما يستطيع أن تصل إليه دباباته، فهو بهذا الاحتلال قطع العالم العربى جغرافيا إلى قسمين وأحال بين مصر وباقى الوطن العربى، وفى هذه الحالة استخدمنا وسيلة لمحاربة إسرائيل هى مقاطعتها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. المرحلة الثانية بدأت منذ عام 1949 وحتى أكتوبر 1973، عندما أخذ العالم العربى يفكر هل يمكن محاربة إسرائيل وبالتجربة والخطأ اكتشف قدرته على ذلك فى أكتوبر 1973. المرحلة الثالثة كانت عبارة عن قلق الكثيرين داخل وخارج المنطقة من روح الحرب ومعرفة المصريين لآلياتها لذلك تدخل الكثير إقليميا سواء من شاه إيران أو الملك الحسن، وخارجيا، وأنا أتحدث هنا وأنا شديد القرب من الحدث فقد كتبت البيان الاستراتيجى لأهداف الحرب لأحمد إسماعيل، وبدأت نتيجة خوف الغرب من قدرة العرب على حمل السلاح فبدأ البعض ينادى بالسلام، وتم الترويج إلى أن أمريكا تملك كل مفاتيح السلام، فبدأت مرحلة من حينها وحتى 11 سبتمبر عام 2001، وسقطت موانع كثيرة جدا بهذا السلام، ويمكن تسمية المرحلة بأنها «الحل فى يد الأمريكان». المرحلة الرابعة: بدأت عندما اعتبرت أمريكا العرب بأكملهم عدوا لها بسبب أحداث 11 سبتمبر، وأصبح كل العرب مذعورين. المرحلة الخامسة: وهى الانسحاب الأمريكى من الوطن العربى، وتركنا وجها لوجه مع إسرائيل وهى المرحلة الإسرائيلية فى وجهة نظرى، لأننا وجدنا فيها إسرائيل تتوسط لدى أمريكا لبعض الدول العربية لرفع غضبها عنها، وهى مرحلة لم نشهد مثيلها من قبل. ■ الآن إسرائيل والعرب أمام ضجة اسمها «جولدستون».. هل نحن أمام فتح عظيم فى المنطقة؟ - يجب أن نضع «جولدستون» فى إطارها الصحيح، ففى ظل الضعف العربى استطاعت إسرائيل أن تفعل كل ما فى هواها فى لبنان وفلسطين، والصورة كانت بشعة فى البلدين، والعالم العربى كان وكأنه يشاهد فيلم مغامرات، والغريب أننا فى الوقت الذى اعتمدنا فيه على إسرائيل فقدت هى مكانتها بعدة جرائم بسبب جنون القوة الذى يأخذ أصحابه إلى أبعد مدى، فأصبحت إسرائيل بسبب حالة الفقد تطلب من العرب أمرين أولهما أن يذهب محمود عباس للقاء نتنياهو وأوباما فى نيوريورك لكى يغطى أفعال إسرائيل، والثانى عدم الوقوف أمام تقرير «جولدستون» لأنه سيعطل عملية السلام. وأعتقد أننا لم نفهم وربما لم نقرأ تقرير «جولدستون» والضجة التى تفعلها إسرائيل حوله أكبر دليل على خطورته لأنه ممتلئ بجرائم حرب وجرائم بشرية. ■ ولماذا تم التعامل مع تقرير «جولدستون» بهذه الطريقة ولم يتم إهماله كباقى التقارير الموجودة فى الأممالمتحدة؟ - لأن التقرير استفز يهود العالم ككل، وقبل تقرير «جولدستون» كان هناك تقرير شديد الأهمية ولم يتم الالتفات إليه وهو تقرير الجامعة العربية، فالأمانة العامة للجامعة العربية قدمت تقريرا عن تلك الجرائم من خلال سؤال كل خبراء القانون العرب، ووضعوا مقترحات بأسماء تحقق فى تلك الجرائم، وجاءوا بقاض يهودى من جنوب أفريقيا معروف بالنزاهة، ومنعته إسرائيل من الدخول لكنه قدم تقريرا قويا لم يتنبه له العالم، فنحن غير قادرين على مواجهة الحقيقة بسبب اعتمادنا على إسرائيل التى حصرنا معها فى ذات الصندوق، وللأسف الوزراء فى الدول لا يقرأون شيئا، لكن تقرير «جولدستون» لا يمكن إهماله لأنه وفريق عمله معروفون بالنزاهة واللجنة لم تنحز، لكن الحقائق جارحة، ومن قال إن التقرير أدان إسرائيل وحماس فهو شخص يبحث عن تبرير للتواطؤ. ■ لكن التقرير أدان حماس أيضا؟ - لذلك أقول لك إن التقرير لم يُقرأ، فالتقارير الدولية لها نوعان الأول رسم حالة، والثانى تقارير فاعلة، وتقرير «جولدستون» يندرج تحت النوع الثانى فهو قام بوضع ما يجب عمله ومشروع القرار الذى يجب أن تتخذه الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، وحقوق الإنسان والدول العربية والأجنبية، ووضح القوانين التى يجب أن تستند عليها، لذلك خافت إسرائيل لأنه تقرير فاعل. أما إذا تكلمنا فى قصة حماس فالتقرير برأها من إطلاق صواريخ على مدنيين وأدان إسرائيل بذلك، التقرير قال إن حماس أطلقت صواريخ بلا هدف أصابت اثنين وقتلت اثنين، إنها مارست حرباً دعائية كبيرة، لكن كل ذلك لا يمثل واحداً على مليون مما فعلته إسرائيل، فقد قرأت التقرير مرتين بوعى رجل يريد أن يفهم، لذلك أعجبنى، وأتحدث عن التقرير بحرقة لأن كل الرجال الذين يقفون معنا نخذلهم فأنا أمتلك معلومات حول كيف تضايق الرجل وفريق عمله من موقف العرب الغريب رغم الحملات الضارية، التى شنتها إسرائيل عليه، لذلك فأنا مندهش من أنه برغم تراجع صورة إسرائيل وعدم قدرة وقوف أمريكا إلى جوارها يتخذ العرب تلك القرارات بسهولة شديدة. ■ تقرير «جولدستون» دخل مرحلة السجال السياسى بين السلطة وفتح من ناحية وحماس من ناحية أخرى.. كيف يمكن لنا أن ننظر بأهمية كبيرة إلى هذا التقرير، ونفعل ما جرى فيه بعيدا عن التوظيف السياسى؟ - نحن هنا نغفل نقطتين مهمتين، ما تراه من توظيف سياسى هو تأثير صدمة لأناس تصوروا أن فى أيديهم شيئا حقيقيا أخذ منهم، النقطة الثانية هى أن اشتباك الأطراف الفلسطينية لا يعنينى لأنهم ليسوا القضية، ويجب أن ننتبه لما انتبه له العصر الملكى سابقا، وهو يسمع تصريح بن جوريون «لايحدد أحد حدود إسرائيل، فحدود الدولة اليهودية حيث تتمركز دبابات الجيش الإسرائيلى»، فالقضية أكبر من فلسطين، فالدول العربية هاجرت من التاريخ، والسؤال هنا لماذا ضغط علينا إلى هذا الحد المهين فى تقرير «جولدستون»؟، هناك تقارير كثيرة أغلبها يموت، نحن فى ظرف تاريخى لم يُستغل، ونعطى إسرائيل قوة أكبر من اللازم، ومن يظن أن إسرائيل تستطيع أن تأخذ مطالبى لأمريكا واهم، كما أن أوروبا تغيرت بعض الشىء نحو إسرائيل، حتى تصوراتنا تجاه أوباما خاطئة، نعم الرجل جيد لكنه لا يملك شيئا للعرب، وكان ينبغى أن ننظر للأمور بطريقة مختلفة، وأن نستعيد زمام المبادرة مرة أخرى، لكن لأننا غير قادرين على الاعتراف بوصولنا لمراحل كبيرة من الضعف تركنا الفرصة. ■ لكن هناك محاولات لإعادة تفعيله؟ - مبقاش ينفع، لأن العمل السياسى لحظة وفرصة ونافذة، والدنيا كلها كانت معبأة تجاه إسرائيل، فهل يمكن أن أستغل تعبئة العالم تجاه حرب أكتوبر بعد قيامها بستة أشهر، إن هناك فارقاً بين ما هو سياسى وما هو وظيفى، وإعادة تفعيله عمل وظيفى وليس سياسياً. ■ وهل الفرصة ضاعت؟ - هناك فرصة للاستئناف، يمكن أن نذهب للمحكمة، ونقول لها أننا شعب مغيب وحد شربنا حاجة ومكناش فى وعينا. ■ ربما أسوأ ما فى قضية «جولدستون» أنها وجهت ضربة قوية للمصالحة الفلسطينية التى ترعاها مصر، والرأى العام العربى «قرف» ويشعر بأن القضية ضاعت؟ - نحن نضع على الطرف الفلسطينى أكبر مما يستطيع، فالرأى العام قرف، لأننا مارسنا حول هذا الصراع وسائل غريبة جدا، قل لى كيف يمكن أن يصل الصراع العربى- الإسرائيلى إلى عرب يعتمدون على إسرائيل، نحن ما زلنا نعيش مرحلة الخوف من جورج بوش الابن، ولا أعتقد أن المبادرة السعودية كانت موجهة لحل القضية الفلسطينية، وقد التقيت الملك عبدالله، وأعتقد أن المبادرة لا تعبر عنه، وإنما تستهدف علاقات عامة مع أمريكا، وتقول لها «كف عنا غضبك»، مثلما فعلت ليبيا وسلمت كل حاجة عندها. وليس غريبا أن يقول رئيس أركان الحرب الإسرائيلى «على أى عربى أن يتخذ حلاً من اثنين أن يكون «صدام» وينتهى نهايته أو أن يكون القذافى ويسلم ملابسه»، والناس قرفت، لأنها تاهت من كل المبادرات والانقسامات. ورغم عدم إعجابى بمحمود عباس فإنه يصعب على، لأننى أعلم أنه لم يكن يريد أن يذهب إلى الرياض، لكنه ذهب إلى جانب من يملك أن يقول له ذلك، وهو يشبه بذلك «زيوار باشا»، الذى اشتهر عنه بأنه يرضخ للإنجليز فقيل عنه «شالوه فانشال وحطوه فانحط»، فقيل له اسحب تقرير «جولدستون» فسحبه. ■ هناك رأى يقول بأنه يجب عزل السلطة الفلسطينية وتحميل إسرائيل وزر الاحتلال.. هل هذا خيار ممكن؟ - كل الخيارات ممكنة لو درست، لكن يجب عدم وضع العربية أمام الحصان، لأن هناك أزمة فى العمل العربى كاملا، وليس فى العمل الفلسطينى فقط، لقد أصبحنا شتاتاً، وكل الأطراف العربية هاجرت من التاريخ، ومصر انعزلت وراء سيناء، وقالت مليش دعوة بالقصة دى، وأنا أرى اليوم سوريا بتسيب التاريخ ورايحة للجغرافيا، فهى تترك كل شىء وتتحدث عن تركيا، والسعودية تركت العالم العربى واتجهت لتكوين دول الخليج، واليمن كذلك هربت من التاريخ وطردتها الجغرافيا، ففلسطين محاصرة بسوريا ومصر ومعابر مغلقة، تركت التاريخ لتقف وراء الجغرافيا، والهجرة من التاريخ هى هجرة من القضايا القوية لها، وإذا بقى الوضع على ما هو عليه، فأى حل لن ينجح.