فى تركيا مشروع وطنى كبير اسمه «المستقبل»، الاتفاق عليه واضح جداً، تعريفه محدد، وخطوطه العامة واضحة، وإن اختلفت الآليات والبرامج لبلوغ هذا المستقبل بين جهة وأخرى. كنت مثلك أعتقد أن تركيا، بانفتاح واسع على العرب، وبخطاب انتقادى عنيف ضد إسرائيل، وبإعلام ناطق بالعربية، ودبلوماسية واستثمارات وتسهيلات فى الدخول والخروج، تهدف إلى العودة إلى مناطق نفوذ قديمة، وتبوؤ مقعد قيادة شاغر فى المنطقة ويحتاج لقوة معتدلة وذات حيوية لشغله، وأن هذا التوجه يتسق مع «أيديولوجيا» حزب العدالة والتنمية الحاكم، بما يعنى تراجع حلم أوروبا لدى الأتراك بعد فشلهم، عبر سنوات، فى دخول جنة الاتحاد الأوروبى، سواء لاعتراضات أعضائه المبنية على هوية تركيا الإسلامية، أو لقصور فى الالتزام التركى بالمعايير الأوروبية. لكن أحداً مهما كانت شعبيته لا يجرؤ على تبديل الحلم القومى للأتراك منذ «أبوالدولة الحديثة أتاتورك» بالاندماج فى أوروبا. هذا حلم العلمانيين والإسلاميين على السواء، ومشروعهم الوطنى، وهو لا يعنى بالنسبة لهم مجرد عضوية فى ناد، أو اتحاد، وإنما يعنى تحقيق معايير حياة قائمة على نمو سياسى بالديمقراطية، ونمو اقتصادى بالإدارة الرشيدة، ورفاهية مجتمعية تأتى انعكاساً لكل ذلك. ينظر الأتراك لأوروبا من أجل المصلحة، وينظرون إلى الشرق وعيونهم على أوروبا، يساومون بهذا الوضع الجديد للاقتراب من الحلم، ويكسبون فى الاتجاهين وحسب تعبيرهم «تحقق الحسنيين.. عودة لقيادة الشرق .. واقتراب من الحلم الأوروبى». جزء من مظاهر الالتفاف التركى حول هذا المشروع الوطنى، الذى يعنى عملاً جاداً لتحسين الأداء بكفاءة مؤهلة، أن مؤسسة قوية مثل المؤسسة العسكرية انسحبت من المعترك السياسى، وتركت صناديق الاقتراع تحدد بنزاهة من يقود سفينة الوطن، حتى لا يؤثر وضعها القريب من العمل السياسى على فرص الدولة فى دخول النادى الأوروبى. حتى المؤسسات الدستورية والقضائية الغارقة فى العلمانية المتشددة والتى تطبق المبادئ الكمالية لمؤسس الدولة بمنهجية صارمة، وطالما استخدمت أدواتها فى التدخل لحظر أحزاب ذات توجه محافظ «إسلامى» أو التضييق على المتدينين دون تطرف، والمحجبات دون ادعاء، خففت مواقفها، فقط لأن استمرارها فى حصار «الحجاب»، على سبيل المثال، يصطدم بالمعايير الأوروبية التى تعلى من شأن حرية العقيدة والزى، حتى لو كانت تلك المعايير فى النهاية والتى وضعتها دول علمانية الطبع، يجرى استخدامها لخدمة أفكار إسلامية، هنا لا ازدواجية أوروبية، واستعداد من المؤسسات العلمانية التركية لتخفيف قيودها فى سبيل الحلم الوطنى. الجميع هناك يخدم هذا الحلم الوطنى، لأنه مرادف طبيعى للمستقبل، حتى الشعب بمشاركته فى الانتخابات، وسلوكه وحفاظه على مكاسب التنمية، وتصديره لمفهوم المواطن الشريك يقترب ببلاده من هذا الحلم. وبين كل هؤلاء تتحرك حكومة «العدالة والتنمية» فى السياق ذاته ونحو الهدف ذاته، بوسائل تعظم من قدر تركيا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وتمنحها علامة الجسر الحقيقى بين الثقافات والحضارات والسياسات، بخطاب «محافظ وليس إسلامياً» يحترم علمانية الدولة ودستورها وآلياته، ويحترم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان باعتباره «الثقافة العالمية الموحدة» يفهم دينه بوعى، ويعكسه بسلوك مستقل، يخدم أحلام شعبه ويسير بهم نحو المستقبل الذى يريدون. لا أحد لدينا يحاول الاستفادة من التجربة التركية، لا الحكومة ولا المعارضة ولا الحركة الإسلامية.. ولا حتى الشعب، هناك لديهم مشروع موحد اسمه المستقبل، وهنا لا يبدو أى مستقبل فى الأفق. [email protected]