جلس الطفل إيال ساجى يشاهد القناة الأولى بالتليفزيون الإسرائيلى، مستمتعاً بالفيلم العربى الذى يذاع ظهر كل «جمعة»، مصحوباً بترجمة للعبرية، شدّته موسيقى أوبريت «الحبيب المجهول»، وأخذ يرفع الصوت شيئاً فشيئاً، بينما يتردد صوت قيثارة السماء ليلى مراد فى فضاء الغرفة: «اللى يقدر على قلبى.. يخطفه وأنا أجرى وراه». فجأة اندفع أبوه وأمه من غرفة نومهما، وهما يصيحان بفرحة طفولية: «ليلى.. ليلى». وعمّت البهجة الشقة الصغيرة فى إحدى ضواحى تل أبيب، عندما وقف ساجى وزوجته يرددان خلف صوت ليلى كلمات الأوبريت الذى يحفظانه عن ظهر قلب. المشهد كان غريباً ومدهشاً للطفل إيال (12 سنة)، فبدأ يستجوب والديه: مَنْ ليلى هذه؟ وكيف تعرفان ممثلة مصرية من أيام الأبيض والأسود؟ ولماذا تبكى أمى وتضحك فى نفس الوقت؟ ونزلت الإجابة عليه مباغتة: ليلى هى قريبة أبيك، من بعيد، وكانت تعيش معنا فى مصر، وولدت فى حى العباسية لأسرة يهودية متدينة، قبل أن تصبح مطربة وممثلة مصرية مشهورة، وتتزوج من فتى السينما الأول أنور وجدى، ثم تعتنق الإسلام، وترفض الهجرة لإسرائيل، وتبقى فى مصر حيث وُلدت وعاشت أزهى أيام حياتها. إيال ساجى يتذكر هذا المشهد، دائماً، كلما كتب حرفاً فى رسالته لدرجة الدكتوراه بجامعة تل أبيب عن الممثلين اليهود فى السينما المصرية، ويتناول فيها: ليلى مراد، وتوجو مزراحى، ومنير مراد، ونجمة وراقية إبراهيم، وكاميليا، ونجوى سالم، وإلياس مؤدب، وآخرين. لكن ليلى مراد، قريبة والده، تحتل مكانة خاصة جداً فى اهتمامات إيال الذى صار واحداً من أهم نقاد السينما فى إسرائيل، وعضواً فى الصالون الثقافى «محبى مصر»، الذى ينظم ندوة شهرية عن مختلف القضايا الاجتماعية والثقافية فى القاهرة، يحضرها أحياناً مسؤولون من السفارة المصرية بتل أبيب. يروى الناقد الإسرائيلى أنه كان ينتظر حلقات مسلسل «أنا قلبى دليلى» كل ليلة بفارغ الصبر، ويجلس أمام شاشة فضائية دريم، مشدوداً، ليتابع أول عمل درامى مصرى يسجل السيرة الذاتية ل«سندريلا السينما المصرية». ولا يواجه إيال صعوبة تُذكر فى فهم اللهجة المصرية، فهو يجيدها قراءةً، ومحادثةً، ويلم بكثير من العادات والتقاليد. ويقول إنه تعلم اللغة العربية من أبيه «ساجى» الذى ولد فى حى الظاهر، وانتقل فى شبابه للإقامة فى حارة اليهود بالقاهرة نتيجة ضائقة مالية مرت به، فافتتح ورشة داخل الحارة، وكان مصرياً فى تصرفاته، وعاداته وتقاليده، وملابسه. الأب ساجى، نفسه، يتذكر يوم أشهرت ليلى إسلامها، وكيف خيّم الحزن على حارة اليهود، واجتمع الشباب على المقاهى يتدبرون أمرهم، فليلى فتاة جميلة، وسليلة عائلة متدينة، ويتمنى معظم الشباب اليهود الاقتران بها.. وصحيح أن أباها ملحن معروف، لكنه فى الأساس مقيم شعائر وصلوات فى المعبد.. وارتقى لهذه المرتبة الدينية الرفيعة بفضل صوته الملائكى الذى ورثته ابنته، لكن سرعان ما تبدد الغضب، وقرر حكماء الحى احترام رغبة ليلى، وحريتها فى اختيار المعتقد الذى تؤمن به، خاصة أن المجتمع المصرى شهد كثيراً من الزيجات المختلطة فى هذا الوقت. وكان العلم المصرى عبارة عن هلال به ثلاثة نجوم ترمز للديانات السماوية، وكان نشيد الكشافة المصرية «قوم يا مصرى» الذى ألفه وغناه «سيد درويش» يوحّد كل المصريين، بقوله: «إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود/ دى العبارة نسل واحد م الجدود». فى دراسته النقدية عن مسلسل «أنا قلبى دليلى» اختلف «إيال ساجى» مع صحفيين إسرائيليين هاجموا المسلسل مثل «إيهود يعرى» خبير الشؤون العربية. ويؤكد ساجى أن المسلسل به عدد من النقاط المضيئة مثل تقديم اليهود بصورة إنسانية، فيهم المنتمى لمصر، وفيهم المنضم لأنشطة الحركة الصهيونية، ويتبنى دعوات الهجرة لإسرائيل، كما لم يتنكر صناع المسلسل لحقيقة انتماء ليلى لأسرة يهودية. وامتدح «ساجى» أداء الفنانين المصريين عزت أبوعوف وهالة فاخر، بالمقارنة مع أداء السورية «صفاء سلطان» لشخصية ليلى، والأداء الكاريكاتورى الذى قدمه أحمد فلوكس لشخصية أنور وجدى. لكن الناقد الإسرائيلى الشاب يأخذ على صناع المسلسل عدم دراستهم أنماط حياة يهود مصر فى تلك الفترة، وتجاهلهم للجانب اليهودى فى طفولة ليلى، فالشخصيات اليهودية فى مصر تكاد تتحدث بالعبرية، وهى تحيى بعضها بعضاً بكلمة «شالوم- سلام»، والحقيقة أن يهود مصر كانوا يتحدثون اللهجة المصرية، ويحيون بعضهم بعبارة «سعيدة»، و«سعيدة مبارك»، كما أن المسلسل الذى وصل لحوالى 40 حلقة، لم يعرض مشهدا واحدا يصور ليلى فى صباها، وهى تذهب للمعبد، أو تشارك فى احتفال دينى يهودى، أو تقف بجانب رمز دينى مثل الشمعدان أو نجمة داود، على الرغم من انتمائها لعائلة يهودية متدينة، ومشاركتها لأبيها فى غناء تواشيح وصلوات الاستغفار اليهودية خلال عيد الغفران. ومازال يهود مصر يحتفظون بتسجيلات نادرة لتواشيح عبرية بصوت الملحن والمنشد زكى (مردخاى) مراد وابنته. ويوجد تسجيل صوتى نادر لتواشيح بالعبرية، يجمع زكى وابنته فى ليلة الغفران، ويعود إلى عام 1930، أى بعد ميلاد ليلى ب 12 عاماً تقريباً. مجدى صابر مؤلف المسلسل ينفى هذه الانتقادات، ويقول إنه أبرز الطابع اليهودى الذى ميّز أسرة ليلى خلال المسلسل، ففى الحلقة الثانية يدعو زكى مراد لاحترام شرائع السبت، والصلاة فى المعبد، وفى الحلقة الثالثة احتفلت أسرته بعيد الغفران، وذبحت الفراخ والديوك فداءً لبناتها وأولادها. كما ظهر الشمعدان اليهودى فى مكتب «الحاخام باشى». وبخصوص استخدام التحية «شالوم» فلا أعتقد أن الناقد الإسرائيلى عاش فى مصر خلال هذه الفترة، وإذا كان يعتمد على مراجع، فأنا أيضاً اعتمدت على مراجع تاريخية، ولم أقدم اليهود فى صورة نمطية أو مجافية للواقع. «المصرى اليوم» حصلت على نسخة من التسجيل النادر، وتصل مدته إلى 12 دقيقة، ويضم ثلاث صلوات استغفار يهودية مشهورة، تُغنَّى فى عيد الغفران، وهى صلوات: «تبارك الخالق»، و«إله عظيم الأفاعيل»، و«ربى هو الله». وألف زكى مراد ألحاناً عربية لتصاحب الكلمات العبرية. ويبدأ التسجيل النادر بصوت مذيع يعلن أن زكى أفندى مراد سيغنى، ويبدأ الأخير فى الغناء، وتصاحبه «ليلى» بدءاً من الثانية 29، وتكرر كل جملة بصوتها الملائكى المعروف، وربما كانت ليلى لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها فى ذلك الوقت، ومع ذلك يظهر صوتها بوضوح، مع صوت أبيها العذب، لكن التسجيل يحتاج معالجة بالوسائل الصوتية الحديثة لضبط سرعته، شأنه شأن كل التسجيلات القديمة المتبقية من هذه الفترة. وتواشيح الاستغفار التى يؤديها زكى وليلى ترتبط بعيد الغفران الذى يبتهل فيه اليهود ليغفر الله خطاياهم التى ارتكبوها طوال العام، وتأتى فى صورة مربعات شعرية، يغنى زكى شطرة، وتكرر وراءه ليلى شطرة أخرى. ويقول أحد مقاطع الموشح الثانى، بترجمة حرة: «إلهى يا عظيم الأفاعيل/ اعفُ عنا فى صلاة النَعيلا/ قلة قليلة تقبلها فى رحابك/ يتطلعون إلى ثوابك/ يخشعون فى صلاة النَعيلا/ يقرون بخطاياهم/ امحُ آثامهم/ واشملهم بمغفرتك فى ساعة استجابة/ واسترهم واغسلهم من الذنوب/ واختم لهم بالرحمة والمغفرة... ميكائيل يا حامى إسرائيل، إلياهو، وجبريل/ بشرونا بالخلاص فى صلاة النَعيلا»، وصلاة النَعيلا التى تتكرر فى المربعات الشعرية، هى آخر صلوات عيد الغفران، التى تسبق إغلاق بوابات السماء، لذلك يقبل الله خلال هذه الساعة المباركة دعاء عباده المؤمنين. لم يتسن لنا الحصول على تعليق زكى فطين عبدالوهاب، ابن الفنانة الكبيرة ليلى مراد، لكن الناقد الغنائى المعروف «مؤمن المحمدى» يرى أن غناء ليلى مع أبيها فى هذه السن المبكرة مسألة طبيعية. وهذا الأمر لا يدينها فى شىء، فقد اكتشف زكى موهبتها فى الغناء فى سن مبكرة، وربما اجتهد فى تدريب صوتها، وتنميته، ومع ذلك يجب أن ننظر إلى الأمور فى إطارها الأوسع، فمن ينسى أن ليلى شدَت برائعتها «يا رايحين للنبى الغالى» قبل اعتناقها الإسلام بفترة، وكانت تطرب لصوت الأذان، وتأثرت بالشيخ محمد رفعت. ومن ينسى أن عبدالحليم المسلم غنى ترانيم مسيحية، وكذلك فريد الأطرش الدرزى، وشقيقته أسمهان غنت «عليك صلاة الله وسلامه».. هذه النماذج تدل على أن مصر كانت دولة تعددية، تحتفظ بنسيج اجتماعى ثرى، ولم تنزلق إلى التشاحن الطائفى، وعاشت فى تسامح، ففى هذه الفترة كان «الدين لله، والغناء للجميع». «إيال ساجى» يكاد يتوصل لنفس الاستنتاجات فى دراسته عن دور اليهود فى صناعة السينما بمصر، فهو يؤكد أن: «مصر فى المرحلة الليبرالية كانت بلدا مفتوحا لكل الأديان، والأعراق بلا تمييز، وحقق الممثلون اليهود نجاحات مذهلة، ولم يتوقف أحد عند كونهم يهوداً، والشارع المصرى فى هذه الفترة لم يعنه أبداً انتماء شخص معين لدين معين. وتعامل مع اليهود بوصفهم مصريين متساوين فى الحقوق والواجبات». ويضيف ساجى: «هذه المعاملة لم تتغير بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، فقد أجاد المصريون التمييز بين اليهودى والإسرائيلى، بدليل أن نفس الممثلين اليهود ظلوا يعملون فى السينما، واحتفظوا بشهرتهم وشعبيتهم، بل ارتفعت نجومية بعضهم مثل نجمة إبراهيم التى لعبت دوراً رئيسياً فى فيلم صلاح أبوسيف (ريا وسكينة) عام 1953، وظل بعض الفنانين اليهود يشاركون فى الأفلام المصرية حتى خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مثل فيكتوريا كوهين وغيرها، لكن الأمور تغيّرت بعد ذلك، وصار هناك خلط بين اليهودى والإسرائيلى نتيجة تفاقم الصراع العربى- الإسرائيلى».