إذا كان المؤرخ الإسرائيلى الشهير يعقوب تالمون قد نجح فى إطلاق توصيف دقيق لما تعانيه إسرائيل من «عقم الانتصار»، مقتبساً فى ذلك عبارة الفيلسوف الألمانى هيجل، للتدليل على ما يعانونه وتعانيه المنطقة معهم من حروب وصراعات مستمرة رغم «الإنجازات» التى حققوها فى 48 و 56 و67، فهل يمكن أن يكون هناك «نشوة للانكسار» الذى مازال العرب والفلسطينيون يعانونه فى ظل أراضٍ لم تزل بعد محتلة، والأخطر وعى لم يزل بعد مفقوداً. المشهد الهزلى والصورتان المتناقضتان المتكررتان كل عام لاحتفالات الإسرائيليين وهم يتبادلون التهانى فى نخب «الاستقلال»، بالتواكب مع تجرع الفلسطينيين مرارة الهزيمة وهم يحيون ذكرى «النكبة»، تأتى هذا العام بينما لم يجف بعد حبر البيان الختامى لمؤتمر مناهضة العنصرية «دربان2» الذى عقد فى جنيف قبل بضعة أسابيع، وهو المؤتمر الذى نجحت إسرائيل، كعادتها، ورغم مقاطعتها الرسمية له، فى تحويل دفة أحداثه لصالحها، من خلال المتاجرة بمضمونه، فى لعبة أتقنتها منذ عقود لتنفيذ مشروعها الصهيونى عبر محطات بارزة لم يكن وعد بلفور 1917 أولها، ولن يكون مؤتمر «دربان» آخرها. صحيح أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت مقاطعتها الرسمية للمؤتمر بدعوى «اختطافه» وتحويله إلى منبر «معاداة للسامية»، غير أن الواقع يؤكد أنها دفعت بكل طاقاتها، فكانت جنيف على مدار الفترة من 18 – 25 من أبريل الماضى تعج بالنشطاء الإسرائيليين وأعضاء المنظمات الصهيونية والطلاب اليهود من مختلف جامعات أوروبا وأمريكا، كل هؤلاء ذهبوا إلى دربان بأجندة محددة وتنسيق عالٍ وخفى على مستوى وزارة الخارجية الإسرائيلية، فعقدوا المؤتمرات ونظموا المسيرات وأقاموا الفعاليات المروجة لأجندتهم، ما جعل بالنهاية أداء المنظمات العربية غير الحكومية مقارنة بهم فى جنيف يتوارى بشكل مخجل، ليكون مثالا صارخا على قدرتهم، مقابل عجزنا، على التحرك المنظم فى المحافل الدولية، حتى وإن قاطعوا هم المؤتمر وحضرته حكوماتنا ومنظماتنا الأهلية. متجنبين الإتيان على ذكر لفظ «إسرائيل»، سعى غالبية المشاركين من تلك التنظيمات على التأكيد على هويتهم «اليهودية»، مستغلين لب المؤتمر الدولى المناهض ل «العنصرية»، بكل أشكالها دينية وسياسية، فنجحوا فى ترسيخ صورة «الدولة اليهودية المضطهدة» من قبل محيطها فى منطقة الشرق الأوسط، تارة من قبل إيران التى تريد أن تمحوها من الخريطة لمجرد أنها «يهودية»، وتارة من قبل «إرهابيى حماس الإسلامية»، الذين لا يتوقفون عن قصفها بصواريخهم، لا لأنهم شعب محتل، وإنما لأنهم يهود! كان هذا هو المنطق الذى قررت التنظيمات الصهيونية المختلفة التى طارت إلى جنيف فى مهمة عمل رسمية مدفوعة من الدولة الإسرائيلية الترويج لها، فنالت من التعاطف ما نالت، وصدقها من صدق، بداية من حقوقيين غربيين، مرورا بنشطاء فلسطينيين وآخرين مصريين، وصولا إلى نازحين دارفوريين، بينما لم يجد باقى النشطاء العرب خلال المؤتمر غير «مصمصة الشفاه»، تعبيرا عن عجزهم عن التصدى لتلك التحركات التى يخطوها اللوبى الصهيونى كل يوم بثبات لتنفيذ مشروعه، فى حين لم يزل الكثيرون فى العالم العربى غارقين فى سُبات، متمسكين بمفاهيم جوفاء لسياسة «المقاطعة»، تفرغها من مضمونها كاستراتيجية ينبغى تنفيذها بحنكة، تنأى بها عن مجرد «خصام سياسى» وتحولها إلى «سلاح» ضغط حقيقى، لأنه مع الأسف، تلك هى السياسة التى تجيدها إسرائيل. [email protected]