الخطر الأكبر الذى يهدد إسرائيل اليوم لا يأتى من جيوش جرّارة، ولا من نظم سياسية أيا كان نوعها، وإنما يأتى من المجتمع المدنى العالمى الذى ينزع الشرعية عن ممارسات الاحتلال. ففى أغسطس 2008، وبناء على استطلاعات للرأى أجريت فى عشرات الدول أثبتت تدهور صورة إسرائيل فى العالم، دشّنت وزارة الخارجية الإسرائيلية حملة علاقات عامة أنفقت عليها ببذخ، والهدف المعلن للحملة كان صرف انتباه الرأى العام العالمى «بعيدا عن الصراع»، ورسم صورة جديدة لإسرائيل لا ترتبط فى أذهان الناس بالاحتلال والقتل والترويع وإنما بالتقدم والفنون والثقافة. وقد بدأت إسرائيل فعلا تلك الحملة من كندا وبالتحديد من مدينة تورنتو العام الماضى تمهيدا لنقلها لدول أخرى بعد نجاحها، وقد بدأت حملة تورنتو أول الأمر بالتركيز على التقدم الطبى والتكنولوجى فى إسرائيل، ثم كان مخططا أن ينتقل الضوء مع مهرجان تورنتو السينمائى للفنون، لكن ما حدث فى المهرجان، وكان بشهادة وكالة الأنباء اليهودية على موقعها الإلكترونى، هو العكس بالضبط، إذ «تحول المؤتمر إلى ساحة ماجت بالجدل حول الاحتلال» والانتهاكات الإسرائيلية. والفضل فى ذلك يرجع لأصحاب الضمائر الحية حول العالم الذين أصدروا بيانا بعنوان «لا احتفال بالاحتلال»، رفضوا فيه ما كان المؤتمر قد أقدم عليه بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية حين قرر الاحتفال بمدينة تل أبيب «بمناسبة عيدها المئوى». وقد وقّع على البيان عدد كبير من الشخصيات العامة الدولية التى احتجت على الاحتفال بتل أبيب واعتبرته بمثابة «تواطؤ مقصود أو غير مقصود مع آلة الدعاية الإسرائيلية». وقال الموقعون إنهم يرفضون «أن يقوم مهرجان مهم بحملة دعاية نيابة عن نظام أسماه جيمى كارتر ودسموند توتو نظام فصل عنصرى». ورغم أن نشر البيان تبعته حملة تشهير واسعة قامت بها إسرائيل وأنصارها ضد الموقعين، إلا أن ذلك التشهير نفسه وردود الفعل إزاءه أدت إلى إعادة الاحتلال إلى الصدارة ففشلت حملة الدعاية الإسرائيلية. وقد تزامن ما حدث فى تورنتو مع خبر لا يقل أهمية، مؤداه أن بعض المنظمات الحقوقية الإسرائيلية قد بدأت حملة تستهدف وقف تدفق التبرعات التى تجمعها منظمات صهيونية فى أمريكا لدعم الاستيطان. ولعل المهم فى تلك الحملة هو أنها تسعى لاستخدام القانون الأمريكى نفسه لوقف تلك التبرعات، فمعظم المنظمات التى تجمع هذه التبرعات مسجلة فى أمريكا كجمعيات خيرية، ولأن الجمعيات الخيرية الأمريكية معفاة من الضرائب فإن القانون الأمريكى يحظر عملها من أجل أى غرض سياسى. ومن هنا، تسعى تلك المنظمات الإسرائيلية الحقوقية لوقف تدفق التبرعات التى تتجه للاستيطان عبر استراتيجية من محورين، الأول حملة علاقات عامة تهدف لفضح تلك المنظمات الصهيونية التى تستخدم «أموال دافع الضرائب الأمريكى» دون علمه لدعم عمل سياسى غير قانونى أصلا، أى الاستيطان، والمحور الثانى قانونى، إذ تطلب من الفلسطينيين ضحايا عنف المستوطنين اللجوء للمحاكم الأمريكية. والهدف هو استخدام تلك القضايا لإثبات أن أموال التبرعات تذهب لدعم «إرهابيين»، الأمر الذى يجعل تلك الأموال تقع تحت طائلة قانون باتريوت الصادر فى 2001. باختصار، صارت إسرائيل الآن فى مأزق دولى جوهره تلك الحملة الدولية المتصاعدة التى تهدف لفضح جرائمها على أوسع نطاق. ومن هنا، فإذا كنا نحن العرب لا نضيف كثيرًا لإسهام تلك الحملة الدولية المتصاعدة التى تدافع عن قضايانا نيابة عنا. فالمطلوب على الأقل ألا نعطلها، وهو أضعف الإيمان.