أغرانى بالسفر، كما قد يغريك، المبنى الفخم المهيب «ميناء القاهرة البرى» فتوجهت إليه، عبرت البوابات الإلكترونية، وخضعت لإجراءات الأمان والتفتيش، ثم مضيت على السلم المتحرك إلى صالة الانتظار. وبعد كل إجراءات الأمان فى أرض الفخامة هذه نودى على الأتوبيس المتواضع، ليس إلى حد التهالك التام، لكنه يسخر من كل هيبة الميناء. وهذه ليست مشكلة، فقد اعتدنا مثل هذه المداعبات، من نظام الفاشلين المولعين باستحلاب كلمة النظام والمنظومة، فهم يبنون أوبرا فى دمنهور لا تحظى بزيارة فرقة زار، ويتركون مستشفيات الدولة وينصبون سرادقات للعلاج، ويبنون المدارس لتسكنها الوطاويط، وتنشأ بدلاً منها المراكز الخاصة فى العمارات السكنية، فيضمنون تخريب التعليم والإسكان معاً!. ومن الطبيعى أن يبنى النظام المولع بالمنظومات موقفاً عصرياً وحديثاً وضخماً، وينسى كالعادة تفصيلتين بسيطتين لا تؤثران على عظمة الإنجاز، وهما الأتوبيسات التى ستقف فى الموقف، والشوارع التى يجب أن تسير فيها الأتوبيسات!. باستثناء خطوط الغردقة وشرم الشيخ؛ فإن الأتوبيسات سبة فى جبين الألفية الثالثة، أما مدخل ومخرج الميناء فهما شديدا الضيق والفوضى. وليس خطأ أن تكون مواقف أتوبيسات السفر فى قلب العاصمة على مسافات متساوية من كل المستخدمين، بل الخطأ كان فى المغامرة التافهة بنقل موقف أحمد حلمى. لكن العواصم التى تحترم المنظومات حقاً وقولاً توفر لمثل هذه المواقف أنفاقاً ومسارات خاصة تسهل حركتها، ولا تضعها فى شوارع ضيقة كما فعل سادة المنظومات المصرية. نهايته، مازلت فى رحلتى، وقد قرأتها بداية من العنوان، وهو السيارة الصدئة، لكن الجواب كان أكثر سوءاً من عنوانه، بما لا يقارن، حيث البقاء تحت التحفظ لمدة ثلاث ساعات على الرغم من أن المسافة مائة كيلو فقط، وذلك لأن المسار القراقوشى انطلق من الترجمان، متأخراً ربع ساعة، وبحث عن أسوأ الأماكن زحاماً بعد بولاق فكانت جسر السويس، ومنها إلى ألماظة، وبعد التأخير المعتاد فى محطتين إضافيتين، لا بد أن تساورك الرغبة فى القفز فرحاً بالنجاة، عندما تشم أول هواء الصحراء. لا يمكن فى رحلة كهذه أن يفارقك الإحساس بأنك فى عربة ترحيلات تابعة لمصلحة السجون وليس أتوبيس شرق الدلتا. مقاعد رديئة تحس بالحديد من تحت كسوتها، ورف للحقائب نحيف مهتز بتفاهة، ولا يمكن أن تستأمنه على حقيبة، خاصة وأن السائقين يعوضون الزحف داخل القاهرة بالانطلاق بسرعة مدن الملاهى على الطريق الصحراوى!. ومع ذلك انتهت الرحلة بخير، وإذ أكتب هذه السطور الآن، أحس بأن كل إحباط وتعذيب الرحلة فى كفة وفى الأخرى انهيار ثقتى بنفسى ككاتب، حيث لم أتوصل إلى كلمة واحدة تصلح لتوصيف رائحة الأتوبيس المضفرة من حبال العرق والتراب والعادم، والعثة. وأنا لا أسعى هنا لدفع المسافرين إلى ترك شركات الدولة والاتجاه إلى القطاع الخاص، لأن من يفعل ذلك يكون قد هرب من وضعية السجين إلى وضعية الرهينة، وأن تكون فى صحبة العسكر أفضل ألف مرة من أن تكون فى صحبة الحرامية. لا يمكن لمن يستخدم سيارات الأجرة داخل وخارج المدن إلا أن يشعر بإحساس الرهينة المختطف، وهو ليس مجرد إحساس، إذ سرعان ما يتحول إلى واقع مع أول خلاف على صوت الراديو أو مدة الانتظار أو زيادة الأجرة أو زيادة العدد أو تغيير المسار. فوراً يكشر السائق عن أنيابه والحديدة التى فى الدواسة، ويعلن بالصوت العالى: اللى مش عاجبه، فى ستين داهية!. وهنا لابد أن نشيد بنظام المنظومات، فهو لا يفرق فى الاستثمار بين أحمد عز وأى سائق ميكروباص. كلاهما يحكم فى ماله وعباده كما يشاء، أما النظام فهو رقيق الإحساس لا يحب أن يحكم فى مال غيره، لأن من حكم فى مال غيره ظلم. وهذه الرقة التى فى غير محلها هى التى تجعل السائقين وغيرهم من العاملين فى مجال صناعة الخدمات يتصورون أن الركاب أو طالبى الخدمة هم بشر فى وضع إنسانى بائس يساعدونهم محبة فى النبى، وفى أحسن الأحوال هم ضيوف، وعليهم أن يلتزموا الأدب، بينما فى كل بلاد الدنيا يصبح من يضع نفسه فى مجال الخدمة العامة جزءاً من جهاز الخدمات، وينبغى أن يلتزم بالقواعد التى يلتزم بها الموظف. وقد اعتدنا أن نكتب فى هذه البديهيات، مثلما اعتدنا أن تكون حرقة القلب أول ما نحس به عندما نجد نظاماً يضمن الكرامة الإنسانية، وقد كانت هذه الصدمة وقفاً على السفر إلى بلاد العالم الأول، لكن ما يعض القلب أن يكون هذا متحققاً فى بلاد من عالمنا. ولا أظن أن زيارة إلى سوريا يمكن أن تكلف قائد منظومة النقل، الوزير المنصور، محمد منصور، ليرى دولة من العالم الثالث لم تتدخل بشكل كبير فى خدمة النقل، لكنها ألزمت الشركات الخاصة بمعايير جودة، وصارت الشركات تتنافس فيما بينها فى الفخامة والتزام المواعيد وأخلاق السائقين والضيافة المجانية، التى تصل إلى ست مرات: ماء، قهوة، بسكويت، شيكولاتة، ومناديل معطرة، فى مسافة مماثلة للمسافة بين القاهرة والإسكندرية، وبسعر يقل عن السعر على الأتوبيسات المصرية، التى يستخدم بعضها مضيفات لتقديم خدمات مدفوعة ومماحكات مع المضيفات على طريقة علب الليل!. لا أظن أن مظاهر الفشل فى «منظومة» النقل تختلف عن مظاهره فى باقى المناظيم، وأعرف مثلما يعرف الملايين من أبناء مصر، كيف يكون الإصلاح، لكننا، وأعنى بنون الجمع هنا كل من ليس فى قمة هرم السلطة أو الحزن الحاكم، نظل نبحث عن دوافع الفشل وأسبابه: هل هو الغباء الذى يمكن أن يجدى معه الرأى والمشورة، أم أنه وحى توحى به آلهة السوق؟.