اليوم عيد.. ومع خيوط الفجر يتقاطر المصريون من كل حدب وصوب لأداء المشوار الأزلى الأبدى الذى اعتادوا عليه فى أول أيام عيد الفطر، والمتمثل فى زيارة المقابر، حيث يعيشون لحظات من التواصل مع أرواح من رحلوا عن ظهر أرض المحروسة ليحتضنهم باطنها. و«مشوار القرافة» من المشاوير المقدسة التى يحرص عليها الكثيرون، خصوصاً بعد أن أصبح هذا المكان الساحة والمساحة المتاحة التى يتلاقى عبرها الأحياء وجهاً لوجه ليتجمعوا بأجسادهم فوق رفات من رحل. فالحياة اليوم لا تتيح للناس فرصة اللقاء المباشر، إذ يكتفى أغلبهم بالتواصل الافتراضى عبر خطوط التليفونات الثابتة والجوالة!. فالذين يتفرقون فى دروب الحياة لم يعد لهم سوى أن يجمعهم الأموات، لتتجلى حكمة الله الذى جعل الموت قاسماً مشتركاً أعظم يجمع دائماً ما بين البشر. وإذا كان الناس قد اعتادوا تبادل الحديث حول الكثير من الموضوعات خلال هذا التجمع، فمن المتوقع أن يشغلهم اليوم موضوع أساسى، وهو ذلك المشروع الذى تعده الحكومة لنقل المقابر التى تتناثر فى أماكن متفرقة من القاهرة إلى الصحراء، ليتم تحويل المدافن التى تنتشر على أهم محاور العاصمة على طريقى النصر وصلاح سالم- كما يقول المسؤولون- إلى حدائق غناء!. وأستطيع أن أراهن على أن الكثير من سكان القاهرة سوف يبدون غضبهم من هذا المشروع، بسبب تلك «الحدفة الصحراوية» التى يخطط المسؤولون لإلقاء عظام ورفات موتاهم فيها، لأن ذلك سوف يضطرهم إلى الجرى وراء عظامهم فى دروب وعرة، خصوصاً إذا كان الراحل حديثاً، لأنه من المعتاد فى حالة «قدم الميت» أن يزهد البعض فى القيام بهذا «المشوار المقدس»!. ويتشابه الشعب المصرى، فى ارتباطه بعظام موتاه، مع الكثير من الشعوب، خصوصاً شعوب أمريكا اللاتينية. ويحكى جابرييل جارثيا ماركيز فى روايته الشهيرة «مائة عام من العزلة» قصة تلك الفتاة التى كانت تهاجر من مكان إلى مكان حاملة فى يدها كيساً يضم بقايا «عظام» آبائها وأجدادها، لأنها كانت تؤمن بعدم إمكانية العيش فوق أرض لا يرقد فى باطنها رفات أهلها. فى ظل هذا أتوقع أن يشعر الكثيرون بالقرف من هذا القرار، ورغم أن المدافن الجديدة سوف تكون فى صحراء مصر، فإن المصرى اعتاد أن يختزل مفهوم الوطن فى الحى الذى يعيش فيه، إن لم يكن فى الجدران الأربعة التى تضمه وذويه!. والأسباب التى تقدمها الحكومة لهذا المشروع لا تعد مقنعة بالمرة، فمحافظ القاهرة يقول إن الهدف الأساسى من التخلص من المقابر القديمة هو إنشاء حدائق عامة ومتنزهات تزين شوارع القاهرة!، والرجل يقول ذلك فى الوقت الذى تفكر فيه الحكومة منذ سنوات فى نقل حديقة الحيوان، التى ترقد فوق أكثر من 80 فداناً، لاستغلال أرضها فى مشروعات استثمارية. كيف يصدق أحد أن الحكومة التى ملأت القاهرة بجبال «الزبالة» تريد أن تجمل وتزين هذه المدينة؟!، أما الحديث عن أن هذه المقابر تحولت إلى ساحة للإسكان العشوائى تضم الكثير من الفئات التى تحمل أمراضاً اجتماعية خطيرة تهدد المجتمع فيكشف عن نوع من «الاحتقار» من جانب الحكومة «للغلابة» الذين يعكرون صفو سكان الأحياء الراقية، وعلى رأسها مصر الجديدة التى يسكنها العديد من القياديين!. من الطبيعى أن يقفز «عفريت الاستثمار» فى حوارات الكثيرين ممن سوف يناقشون هذا الموضوع اليوم!. فالحكومة تريد أن تستثمر فى الموتى، بعد أن فرغت من الاستثمار فى الأحياء!. وعلى الرغم من أن هناك فتاوى شرعية متعددة تحرم البناء فوق الأماكن التى كانت تضم قبوراً، فإن الحكومة لن «تغلب» فى أن تحقق الكثير من المكاسب من المشروع بعد إنشاء الحدائق فوق «الجثث»، فهل هناك ما يمنع الحكومة شرعاً من تحصيل الرسوم وقطع «التذاكر» لمن يريد دخول الحديقة، وهل هناك فتوى شرعية تمنع الحكومة من أن تؤجر أرض الحدائق للمطاعم البريطانية والأمريكية والمحلية من أجل الارتقاء بالذوق العام لاختيار الطعام وطريقة «الأكل» لدى المواطنين البسطاء، وهل هناك ما يمنع من إنشاء مدن ملاهى؟!. ويبدو أيضاً أن بعض المسؤولين أصبحوا لا يطيقون رؤية المقابر فى طريق تجولهم ومرورهم فى شوارع القاهرة، إذ أنها تذكرهم بما لا يرغبون فى تذكره!، فمزاجهم «الشريف» قد يتعكر عند رؤية المدافن، وقد يؤثر ذلك على ألمعيتهم وقدرتهم على «إخراج» أفكار استثمارية جديدة!، لأن المشهد يجرح مشاعرهم، ويذكرهم بيوم يرجعون فيه إلى الله ليحاسبهم على عملهم، إنهم يودون لو أن معادلة «عمل بلا حساب» التى يعيشونها الآن تمتد بهم إلى ما لا نهاية، ولكن «هيهات هيهات لما توعدون»، ورضى الله تعالى عن الإمام على حين قال «اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل». إننى أنصح مسؤولينا بالتفكير المتأنى فى هذا المشروع قبل أن يحولوه إلى قرار يتم تنفيذه بالقوة الجبرية. فربما كان لهذا المشهد الذى تأنف منه نفوسهم قيمة لا تدركها عقولهم. فهم أحوج المصريين إلى تذكر حقيقة أنهم راحلون، مهما طال بهم العمر، ومهما طال عليهم الأمد، ومهما أعطتهم الحياة، ومهما ظنوا أنهم ملكوا معطياتها، فإنهم راحلون فى لحظة يقدرها الله، ولو أن أحدهم فكر للحظة أنه سوف يموت وأنه سيحاسب فأظن أن أداءه سوف يختلف، وسوف يتعلم كيف يرحم ليرحمه الله، وكيف لا يظلم أحداً من الناس لأن يوم القصاص العادل قادم، وكيف يتقى الله فى أقواله وقراراته وأعماله لأنه سوف يحاسب عليها حساباً عسيراً إن تراجع أداء الكثير من المسؤولين يرتبط بذلك الوهم الذى يعشش فى أدمغتهم والذى يزين لهم فكرة الخلود فى مواقعهم، رغم أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا. ورحم الله جدتى أول مخلوق اصطحبنى لزيارة القبور، وتعلمت منها تلك العبارة التى سمعتها بعد ذلك على ألسنة الكثيرين دون أن تحسها قلوبهم، وهى عبارة جديرة بالتأمل خصوصاً من جانب كبار المسؤولين الذين تقول لهم جدتى من العالم الآخر «عيش يا ابن آدم قد ما تعيش.. لابد من يوم تفارق»!.