لطالما كانت النظافة والاشتراطات الصحية على رأس عوامل تقييم المنتج الغذائى فى أى دولة من دول العالم، لكن يبدو أن المصريين، كدأبهم فى الريادة، كسروا هذه القاعدة، بل ربما طوروا قاعدة جديدة تربط طردياً بين تدنى القيمة وارتفاع الطلب. أشك فى أن أى دولة من دول العالم تحوى مطعماً يُسمى نفسه «..تلوث» أو «.. نتانة» أو «كُل.. وعالمستشفى»، لكن هذا يحدث فى مصر، وهو أمر يتكرس ويرسخ ويتوسع، ليس على سبيل الاستظراف، وإنما اتساقاً مع متغيرات عديدة أخذت المجتمع إلى هوة عميقة من قلة القيمة واستمراء السخافة والاحتفاء بالابتذال. قبل أيام دعوت أصدقاء مصريين مقيمين بالخارج على طعام فى مكان يختارونه بأنفسهم، فطلبوا مطعماً يفترش إحدى الحوارى فى منطقة شعبية شهيرة، حيث جلسوا على مقاعد متهالكة ومناضد غير نظيفة بجوار حوائط مهترئة تزينها أسراب طويلة من النمل، وحيث ثمن الوجبة يماثل نظيرتها فى أى من المطاعم الكبرى، فيما يؤدى الخدمة أفراد لا يقيمون وزناً لأى اعتبار يتعلق بالنظافة أو قواعد المعاملة. الأمر ذاته تكرر مع ضيوف خليجيين، طلبوا تأجير قارب والسير به عبر النيل مع الاستماع لعزف وأغانٍ من فرقة محترفة، حيث أظهروا شغفاً واستمتاعاً كبيرين بمئات الشتائم والبصقات التى أتتهم من الجمهور، الذى أظهر حقداً واستهدافاً شديداً لهم من أعلى الكبارى، معتبرين أن «طقس الشتائم والبصق هذا أهم ما فى هذه الأمسية لكونه لا يحدث إلا فى مصر». فى معظم أحياء القاهرة وفى أغلب شوارعها ستسمع شتائم وألفاظاً بذيئة باستمرار؛ الأمر ذاته يحدث فى النوادى والمقاهى والمطاعم والمحال التجارية وبين سائقى السيارات على الطرق المختلفة، ولا يقتصر على أحياء بعينها أو طبقات اجتماعية محددة، وإنما عمّ وساد بحيث لم يعد يستثنى رجلاً أو طفلاً أو امرأة، ولم تحد منه أو تهذبه مكانة أو دين أو رغبة فى إظهار الحياء والأدب. المطربون يستمدون شهرتهم ورواجهم من الأغانى المسفة والعبارات المبتذلة الواضحة والمواربة، والأفلام والمسلسلات تحظى بالشهرة والمزيد من الإعلانات كلما تدنت واستخدمت «الإفيهات» الهابطة والتشبيهات المشينة، وأكثر الكتب مبيعاً يستند إلى علاقات فضائحية أو لغة مأفونة أو تشبيه ساقط، وأكثر الكتاب رواجاً أولئك الذين يستخدمون لغة الشارع بكل ما بها من سوقية ووقاحة وجرأة فى الاعتداء على القيمة لا الطرح المجدى. من أفدح تداعيات موجة «قلة القيمة» التى تغزونا الآن احترام الفشل والهزل طالما كان «مسلياً وكوميدياً» فى مقابل الاستهزاء بالنجاح والإنجاز طالما كان «ثقيلاً أو جاداً»؛ ومن ذلك أن تسود السينما موجة يحظى فيها البطل المبتذل والساقط والجاهل وخفيف الدم بحب فتاة جميلة ومتعلمة ومهذبة وتنتمى إلى أسرة كريمة، ويتصدر المطربين والإعلاميين رواجاً أكثرهم تعويلاً على الاستظراف وتمتعاً بالجهل والانحدار والسوقية. فى برامج رمضان هذا العام يمكنك أن تلاحظ تركيزاً كبيراً فى البرامج الحوارية و«تتراتها» على الاحتفاء بقلة القيمة وانتقاء الألفاظ المسفة والتصرفات المشينة والأسئلة التى تتعلق بالأسرار الجنسية والاجتماعية. ومن ذلك أن تراجعت أهمية الحوارات والبرامج التى استضافت عالماً أو أديباً أو باحثاً أو سياسياً محترماً يطرح طرحاً جاداً أو يلقى الضوء على مسألة محل جدل أو ينير الرأى العام بمعلومات تتعلق بموضوعات مهمة، فى مقابل الرواج الكبير والشهرة العريضة لبرامج «الكاميرا الخفية» و»مقالب النجوم» والحوارات التى تستهدف حض الضيوف على الطعن بالآخرين وتجريح المنافسين. قلة القيمة تسود وتتغول، بحيث لم يعد الإنجاز ذا قيمة إذا لم يكن خفيف الدم مسفاً مفعماً ب «الإفيهات»، وطلع جيل كامل إلى الحياة دون أن يعرف المفهوم الكامل للحياء، ودون أن يتربى على احترام الجودة والمعيار، ودون أن ينبهه أحد إلى أن الوقاحة والقذارة والسوقية والابتذال ليست فلكلوراً مصرياً.