«لكل إنسان قلب.. وقلب يوسف جوه النخلة».. منذ أكثر من 30 عاما تربى يوسف عيسى، على طلوع النخلة، حيث كان عمره 8 أعوام، ويسير خلف والده وجده، يلم من ورائهما السلة والليف التى كانت تسقط من النخلة، أو يحظى ببعض من البلح الطرى، مثله مثل الأولاد الذين كانوا يلتفون حول النخلة أثناء تقليمها ليأكلوا البلح. 10 سنوات كانت عمرا صغيرا ليتعرف فيه يوسف على كيفية طلوع النخلة حيث إنه دائما ما كان ينظر إلى الشمس ليرى فيها جزءًا من النخلة التى يعلوها والده ليقطع «العرجون» وينظف النخلة من الزعف حتى تكبر وتطرح بلحاً أكثر فى العام الذى يليه.. يتأمل وينظر متى سيتمكن هو الآخر من طلوع النخلة! تدرب يوسف على طلوع النخل على يد والده وجده، حيث ظل الأخير يطلع النخلة حتى توفى بعد أن تعدى عامه السبعين، ففى قرية الشيخ سليمان بمركز يوسف الصديق محافظة الفيوم بدأ يوسف يصعد على النخل الصغير وكان حلمه أن يصعد أقدم نخلة وأطولها فى القرية والتى كانت مملوكة لعائلة «خفاجة»، هذه النخلة التى ظلت أكثر من مائة عامة، طلعها جده وأبوه، لتمر الأيام ويطلعها يوسف وهو فى ال 16 من عمره. 20 متراً هى أطول نخلة استطاع يوسف أن يطلعها ويقلمها ولكنها لم تكن فى الفيوم بل كانت فى سوهاج، إذ اعتاد أن يسافر الصعيد وأسوان والواحات لتقليم النخل. يعرفه الناس فى جميع أنحاء الجمهورية ويطلبونه بالاسم، وبالرغم من أن هناك الكثير ممن يطلعون النخل فى الصعيد إلا أنه الوحيد الذى يطلع النخل فى قريته، ولذلك رفض أن يسافر إلى السعودية أو الكويت لتقليم النخل هناك مقابل مبالغ مالية مغرية. يصف «يوسف» مهنة طالع النخل ب«مهنة الحافى» حيث لا يستطيع أحد أن يصعد النخلة وهو مرتد حذاء فى قدمه، يقول يوسف: «جلد البنى آدم يفرز مادة تلتصق مع (كرناف) النخلة وتجعله يتمسمر بها لأكبر وقت ممكن وتمنعه من التزحلق». يستطيع يوسف أن يتسلق نخلة طولها 20 متراً إلا أنه لا يستطيع أن يصعد فوق منزل مرتفع أو يطل من شرفة من الطابق الرابع. ويضيف: «طالع النخلة لابد أن تكون إيده خفيفة، وأطول مدة تأخذها النخلة فى تقليمها هى نصف ساعة للتخلص من الليف والزعف والعرجون، ولو زادت المدة يبقى اللى طلعها إيده تقيلة». شىء آخر لابد أن يحرص عليه طالع النخلة وهو عدم ضربها فى قلبها، حيث إنها لو ضربت فى قلبها تموت ولا تنتج بلحاً مرة أخرى، وربما لا يعرف أصحابها السبب فى عدم طرحها البلح، لذلك لابد أن يتحلى طالع النخل بالأمانة. أدوات يوسف هى «المطلاع» أو «السلبة» التى يشتريها من نجع حمادى وهى عبارة عن حبل وظهر عريض أو حزام أمان لتوفير سلامة طالع النخلة. أما الفأس أو السلاح الأبيض وهو مصنوع من الحديد والصلب فهو بلطة حادة تستخدم فى تقطيع الزعف والعرجون. و«آيش» أو حزام عريض سميك يربطه فى وسطه ليضع فيه البلطة. يوسف يطلع النخلة مقابل 10 جنيهات، أما النخلة الكبيرة فيطلعها ب 15 جنيها. يرتدى دائماً جلابية وبنطلونا قديماً حيث إنه دائما ما تقطع ملابسه من السل والكرناف. أما عن مخاطر المهنة فهو دائما ما يكون حذراً حتى لا يقطع السلبة بالبلطة ويسقط من فوقها. يوسف تعرض أيضا إلى موقف غريب كاد يسقطه من فوق نخلة طولها 15 متراً، حيث إنه عندما صعد وبدأ يقطع وجد ثعبانين يفتحان فمهما فى وجهه وسرعان ما قطع رأسيهما بالبلطة. هناك أكثر من 20 نوع بلح، أما النخلة فلها فوائد واستخدامات كثيرة، حيث تتكون من العرجون وهو البلح، أما الجمار فهو قلب النخلة، ويعد أهم جزء فيها ولو انقطع أو أصيب تموت النخلة. أما الجريد فيستخدم فى تصنيع الكراسى والأقفاص وسراير الأطفال، ويستخدمه الفقراء فى تسقيف منازلهم بدلا من الخرسانة. أما الليف الذى يخرج من النخلة فيستخدم فى صنع الأحبال والمقشات أو حشو الكراسى الصالونات بعد أن يفرم ويصبح «كريما». يحرص يوسف على الوضوء قبل أن يصعد النخلة، خاصة أنه شاهدها مرات كثيرة ترتجف وتمد جريدها إلى السماء وكأنها تسبح الله. يوسف لديه أربعة أولاد ولا يحب أن يصبح أحد أبنائه طالعا للنخل لذلك أصر على أن يعلمهم، وقال: «أنا وعيت على الدنيا فى بيت فقير ومحدش قاللى روح اتعلم، ومش معايا شهادة أشتغل بيها أى شغلانة تانية علشان كده بخاف يجرالى حاجة وساعتها هتشرد أنا وعيالى».