من بين زحام البرامج والمسلسلات التى تعرضها الشاشات فى تخمة رمضان التليفزيونية، توقفت أمام برنامج «كنت وزيراً»، الذى يعده ويقدمه الزميل جمال الكشكى.. على شاشة قناة «دريم1»، ويستضيف خلاله نماذج من الوزراء السابقين، فى محاولة للتعرف على مشاعرهم وتجاربهم وخبراتهم وعلاقات الناس بهم، قبل وأثناء وبعد توليهم الوزارة.. وهى حالة إنسانية وسياسية تستحق الوقوف أمامها والتوسع فى استكشاف أحوالها فى أطوارها الثلاثة، كجزء من اكتشاف الظاهرة الوزارية فى عصر ما بعد ثورة 23 يوليو 1952. وبين الكثير من الإشارات المهمة التى كشفت عنها الحلقات التى أذيعت من هذا البرنامج الشيق، توقفت طويلاً أمام تأكيد معظم الوزراء السابقين فى هذا الزمان، أنهم لا يعرفون سبباً لاختيارهم لتولى الوزارة، ولا يعرفون سبباً لخروجهم منها، ولا يعرفون من الذى رشحهم أو اختارهم، وكل ما حدث هو أنهم استيقظوا ذات صباح فإذا بهم بالصدفة وزراء.. واستيقظوا ذات صباح آخر.. فإذا بهم بصدفة أخرى وزراء سابقون، وهى ظاهرة لم يعرفها تاريخ الوزارات المصرية، إلا بعد ثورة 23 يوليو 1952، لأن اختيار وزير لمنصبه، أو استقالته أو إقالته منه، كان فى ظل النظام الملكى الدستورى الذى أرساه دستور 1923، كان دائماً موضوع مناقشات عامة، تشترك فيها كل الأطراف. ومشكلة وزراء هذا الزمان، الذين لا يعرفون لماذا يدخلون الوزارة، أو لماذا يغادرونها، تكمن فى طبيعة نظام الحكم القائم، الذى أخذ منذ دستور 1956 بصيغة الجمهورية الرئاسية، فرئيس الجمهورية هو الذى يتولى السلطة التنفيذية، ويرأس مجلس الوزراء، ويختار وزراءه ويعفيهم من مناصبهم، ثم اتجه النظام تدريجياً، ومنذ عام 1962، ليصبح نظاماً شبه رئاسى، يضم مجلساً للوزراء، يشارك رئيس الجمهورية فى ممارسة السلطة التنفيذية، وأساساً ينوب عنه فى المساءلة أمام مجلس الشعب، عن ممارسة هذه السلطة، ويتلقى الأسئلة وطلبات الإحاطة والاستجوابات. ولأنه كان آنذاك نظاماً غير حزبى ولا يعترف بالتعددية الحزبية فقد برزت ظاهرة الوزراء التكنوقراطيين، الذين لا صلة لهم بالسياسة، ولم يعملوا بها فى يوم من الأيام، ولكنهم يختارون لأنهم خبراء فيما تختص به الوزارات التى يرشحون لتولى أمورها، وينفذون سياسات لا يضعونها، بل قد يكونون لأسباب تكنوقراطية ممن يعارضونها ويشكلون فيما بينهم مجلس وزراء، لا يجمع بين أعضائه، اتجاه سياسى واحد، ولا يهتم أحدهم أثناء جلسات مجلس الوزراء إلا بالمناقشات التى تتعلق بشؤون وزارته، ولا يتصرفون بمنطق التضامن فى المسؤولية عن السياسة العامة للوزارة التى هم أعضاء بها، لأنهم لا يشاركون فى وضعها!، بل إن رئيس الوزراء نفسه لا يشارك فى وضع بعضها، وربما أهمها، وفضلاً عن أنه ليس حراً تماماً فى اختيار كل وزرائه، لأن التقاليد قضت بأن ينفرد رئيس الجمهورية باختيار الذين يتولون الوزارات السيادية الدفاع والداخلية والخارجية والإعلام فإن الدستور يمنح الرئيس الحق فى الاتصال مباشرة بالوزراء.. وفى طلب تقارير منهم، فهم بذلك مسؤولون أمام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأمام مجلس الشعب! ومع أن مصر عادت إلى التعددية الحزبية عام 1976، وأدخلت ثلاثة تعديلات على دستور 1971/1980 2005/2007 إلا أن ذلك كله لم يسفر حتى الآن عن تغيير فى الطبيعة التكنوقراطية للتشكيلات الوزارية، أو توسع فى السلطة الإدارية التى يمارسها مجلس الوزراء، فرئيس الوزراء لا يختار كما تقضى بذلك النظم الدستورية القائمة على التعددية الحزبية من الحزب الذى فاز بالأغلبية البرلمانية، وهو ليس حراً فى اختيار كل وزرائه، وليس مطالباً بأن يحوز ثقة مجلس الشعب قبل أن يتولى مهام منصبه، وهو لا يحوز السلطة التنفيذية أصلاً، لأن حائزها الوحيد بنص الدستور هو رئيس الجمهورية، ولكنه يشاركه فقط فى وضع السياسة العامة للدولة. ومعظم مشاكل الوزارات المصرية من الخلافات بين بعض الوزراء ورئيس الوزراء، إلى الصراعات بين التكتلات التى تتشكل فيما بينهم، ويكيد بعضها للآخر، ومن التضارب فى الاختصاصات وفى التصريحات إلى افتقاد الانسجام فى العمل الوزارى، تعود كلها إلى أننا نظام دستورى يوصف أحياناً بأنه «مختلط» ويوصف أحياناً بأنه «شبه رئاسى» فى حين أنه ليس نظاماً بالمرة. وفى انتظار أن يعود أسيادنا الذين فى الإصلاح الدستورى من رحلة المليون مسلسل، ليستأنفوا نشاطهم فى المطالبة بنظام دستورى يأخذ بالجمهورية البرلمانية، سيظل بعض الناس يستيقظون ذات صباح فيجدون أنفسهم بالمصادفة وزراء.. ويستيقظون ذات مساء فيجدون أنفسهم ذات مساء ضيوفاً على برنامج «كنت وزيراً».