من حقنا أن نفرح قليلاً بظهور التاكسى الأبيض فى شوارع القاهرة، بعد كل هذه السنوات من الاسوداد. التاكسى الجديد، بخطى الشطرنج على جانبيه، ليس أبيض تماماً، لكن حسبنا أن بياضه يفوق سواده شكلاً وموضوعاً، وبعد ذلك فإنه يصلح مدخلاً للحديث فى شأن خطير، مسكوت عنه وهو علاقة الأمن بالحياة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر، بعد أن صار الأمن عِجْلاً، لا خوار له، تفرض عبادته على المصريين فى صمت، بينما لا أحد يؤاخذ الصفوة المختارة من المستثمرين على الكفر به! لا شك كانت فكرة رائعة أن يتم تحديث تاكسى القاهرة، من خلال استبدال السيارات القديمة بأخرى جديدة، بل تعمل بالغاز تخفيفاً للتلوث. وقد جاء مشروع الإحلال مع نظام جديد للتسعير يرضى السائق والراكب معاً، بعد طول فوضى حولت الشروع فى ركوب التاكسى إلى نوع من الخروج لمعركة يجب أن تنتهى بالنصر أو الشهادة. وكى لا نتحيز إلى طرف ضد طرف؛ ففى بعض الحالات يبدأ السائق بالعدوان عندما يطلب ضعف ما تستحقه التوصيلة دون خجل أو حياء من رائحة سيارته التى تتراوح بين نتانة العرق والتراب وبين وصول روائح احتراق الوقود إلى داخل العربة. وأحياناً ما يكون المعتدى راكباً من العائشين فى الماضى يمنح السائق نصف ما يجب، أو يتمسك بتشغيل العداد، الذى وضعته الحكومة وتركته على تسعيرة منخفضة، وكأنه وضع خصيصاً لإثارة البغضاء بين الناس. ومن المؤكد أن هذه الوقيعة اللئيمة كانت، هى والتدمير المتعمد لهيئة النقل العام، السبب فى مضاعفة عدد السيارات الملاكى فى الشوارع، حيث يحاول المواطن شراء كرامته وأعصابه، مثلما كانت لجان تقدير إيجارات المساكن سبباً فى إطلاق سعار التمليك من خلال التنكيل بالمالك فى الحقبة الاشتراكية والتنكيل بالمستأجر الآن، فى حقبة النهب الاستحمارى، لا أدامها الله. فى التاكسى الذى غلب سواد جسمه ودخانه، كان السائق على حق فى ترك سيارته قذرة، وكان هو والراكب على حق فى تقدير الأجرة التى يحددها توازن القوى وأسلحة الردع المتوفرة لدى الطرفين، بينما صارت فى الأبيض الجديد، علاقة منضبطة يسودها الهدوء، بسبب المعايرة الجدية للعداد. وهى بالمناسبة تحتاج إلى حسم فى التطبيق، لأن بعض السائقين والركاب أيضاً، لم يزل مخلصاً لعصور الفوضى والظلمات ويفضل أن يستخدم قوة البلطجة أو التسول للتعامل بأزيد أو أقل من التسعيرة. النقاط السوداء البارزة التى شابت هذا المشروع، أبرزها صعوبة الإجراءات وتوحيد سعر السيارات القديمة المستبدلة، حيث تقدر فى المقاصة بسعر واحد هو خمسة آلاف جنيه للسيارة، أياً كان عمرها أو كانت جودتها، بدعوى أنها كلها تذهب إلى مقبرة واحدة، وستنصهر السيارات المحتقرة بعد ذلك لتتحول إلى حديد محتكر. وربما يتسبب هذا الاستغلال فى تأخير تحول التاكسى القديم، حيث سيتمسك أصحاب السيارات الجيدة بسياراتهم حتى آخر المهلة فى 2011، وهكذا يستمر التثليث فى شوارعنا بين الأسود والأبيض والأصفر، الخاص بتاكسى العاصمة الذى نسيناه فى زحام اللونين الآخرين! كانت المعارضة الشديدة لمشروع تاكسى العاصمة فى بدايته، إلا أن التجربة أثبتت أنه أفضل وأقل تكلفة من مساومات التاكسى الحر. وكان فرصة للأمل فى أن تكون عندنا سيارات للخدمة العامة غير مثيرة للخجل، حرمت منها أكبر عاصمة فى المنطقة العربية طويلاً. وكان من الممكن أن يتم إلحاق التاكسى الجديد بالشركتين القائمتين، وهذا النظام ممكن ومعمول به فى كل الدنيا، حيث ينتسب السائق بسيارته إلى شركة قائمة نظير رسوم لاستفادته من شبكة اتصالاتها، وهذا يوفر الأمان للفتيات فى الشارع، ويقلل نسبة جرائم الخطف والاغتصاب بانتظام التاكسى فى شركات. لكن ميزة الاتصالات، التى ستجعل التاكسى الحر يتعاون مع شركة غير موجودة أصلاً، هى السبب الوحيد لوقوف تاكسى العاصمة على حافة الإفلاس، حيث أصبح الاتصال به مجهداً ومكلفاً للراكب الذى عليه أن يجرى عدة اتصالات من المحمول، والسبب هو خطورة شبكة التاكسى على الأمن! ولابد أن يثير هذا التخوف أسئلة من نوع: لماذا مصر بالذات يتأثر أمنها باستخدام التاكسى لشبكة الراديو؟ وهذا هو مربط العِجْل. والقضية الأخطر التى يمثل التاكسى جزءاً منها، وتقف وراء العديد من وقائع الظلم والتعويق الاقتصادى التى تمارس باسم الأمن، دون تحديد أى أمن وأى جهة أمنية هى التى تمنع، ليس لأننا لا نعرف، بل لأننا ممنوعون من البوح باسمها، وعلينا أن نؤمن بغيبها وتعاليمها إيمان العوام. لكن الأديان التى تخاف السؤال تولد الكفر: لماذا مثلاً يتم حرمان الملاك من أملاكهم فى الكثير من المناطق، باسم الأمن بينما لا يتورع رئيس وزراء عن بيع أرض الدولة على الحدود الخطرة فى سيناء لمستثمرين يشرعون فى استثمارها مع إسرائيليين، من دون أن يعزل أو يسجن أو يقطع من خلاف على كفره بالأمن؟! وفى استثمارات التاكسى: كيف تكون شبكة اللاسلكى الخاصة بشركة تاكسى مخلة بأمن مصر، بينما ينتزع مستثمرو التليفون المحمول حق إدخال نظام GPS وهو نظام ملاحى يستطيع تحديد أى نقطة على الخريطة بأصغر تفاصيلها وبإحداثيات شديدة الدقة؟! بالتأكيد هذه ليست دعوة لإلغاء نظام صار معروفاً فى العالم كله، يستخدمه تاكسى باريس لمعرفة الشوارع الأكثر ازدحاماً وتفاديها، كما أنه مفيد فى الحماية من فقدان الطريق فى الغابات والصحارى وتحديد مكان السيارة التى تتعرض لاعتداء فى أى لحظة وأى مكان. وسوف تضم السيارات الجديدة هذا النظام فى تصميمها، ويوماً ما سيتمكن مستوردو السيارات من إدخالها إلى مصر، لكن بعد أن تكون فرصة استخدام التاكسى بطريقة عصرية قد انتهت.