قبل أن ينطلق الرئيس مبارك للولايات المتحدةالأمريكية، تبارى البعض فى سباق محموم من المبالغات.. ووصفوا الزيارة قبل أن تبدأ وأثناء لقاءات الرئيس هناك وبعد عودته بأنها مهمة وتاريخية.. ولكن أحداً لم يشرح لنا الأسباب التى أدت بهم للوصول إلى تلك النتائج. والحقيقة أن وصف تلك الزيارة بأنها تاريخية لا يعنى إلا نفاقاً وتملقاً يضر الكل بما فيهم الرئيس نفسه.. فحينما يطلق على زيارة صفة التاريخية، يجب أن تتوفر لها جملة من المواصفات، منها مثلاً أن تكون الزيارة محطة مهمة يسجلها التاريخ ويذكرها بعد سنوات، وأن تؤثر فى سير الأحداث بشكل واضح، وأن يترتب عليها تغييرات كثيرة محلية وإقليمية ودولية.. فزيارة الرئيس السادات مثلاً للقدس كانت تاريخية، لأنها أسست لمرحلة تاريخية جديدة، وكانت نقطة فارقة فصلت ما بعدها عما قبلها.. كما يمكن أن توصف زيارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما للقاهرة فى يونيو الماضى بأنها تاريخية أيضاً، لأنها عكست تغييراً كبيراً فى السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامى، بعد أن تسببت إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش فى لصق تهمة الإرهاب بالإسلام وبالمسلمين.. ولو طبقنا هذه المعايير فى توصيف زيارة الرئيس مبارك الأخيرة للولايات المتحدة، لن نجد مبرراً كافياً لوصفها بأنها تاريخية، ولأصبح واجباً على أصحاب هذا الوصف أن يقدموا لنا مبرراتهم التى يعرفونها ولا نعرفها. أما الحديث عن أهمية الزيارة فهو أمر قابل للنقاش.. وقد اعتاد الرئيس مبارك السفر لواشنطن مرة كل عام منذ توليه الرئاسة، وكانت كل هذه الزيارات التى تجاوزت 20 زيارة، توصف دائماً بأنها مهمة بغض النظر عن نتائجها.. وانقطعت هذه الزيارات منذ 5 سنوات بسبب توتر فى العلاقات.. ولكن العلاقات كانت توصف رسمياً وبواسطة مصادر رفيعة مصرية وخلال نفس هذه السنوات الخمس بأنها استراتيجية، بل إن الرئيس بوش نفسه زار مصر عدة مرات خلال هذه السنوات الخمس.. وكأن العلاقات المصرية الأمريكية ماضية فى طريقها سواء زارها الرئيس مبارك أو لم يزرها!! وقد يستند البعض فى إطلاق صفة مهمة على الزيارة بأنها تأتى للمرة الأولى منذ 5 سنوات.. وقد يراها البعض مهمة بسبب ذلك الجو الودى الذى ظهر من قبل الرئيس أوباما للرئيس مبارك، والذى يفسره البعض بأنه يعكس أهمية مصر للولايات المتحدة، كما يعكس تقدير واشنطن للدور المصرى.. إلا أن الحكم على أهمية الزيارة ينبغى أيضاً أن يستند لأسس علمية، فالمطلوب أن ندرس بدقة جدول أعمال الرئيس فى واشنطن، وأن نلم بالبنود التى تمت مناقشتها فى القمة المصرية الأمريكية إلماماً كاملاً، ونحدد كيف انتهت المباحثات حول كل نقطة، وكيف أثرت مصر فى تغيير وجهة النظر الأمريكية لعملية السلام مثلاً، وكيف ستصبح العلاقات المصرية الأمريكية بعد الزيارة.. وبعد حصر كل هذه النقاط يمكن تحديد نتائج الزيارة وبالتالى مدى أهميتها ونجاحها.. أى أن الأهمية مرتبطة بالتأثير وليس بمجرد السفر.. وهنا سيكون الشعب المصرى كله مدركاً لمدى الأهمية ومتفاعلاً معها.. وأنا شخصياً لا أستطيع الحكم على مدى أهمية الزيارة لعدم وجود معلومات لدىّ حول النقاط التى تم بحثها.. والنقاط محل الاتفاق.. والنقاط محل الاختلاف. وفى تقديرى أن أهم ما فى الزيارة على الإطلاق كان الحوار الصحفى الذى أجرته محطة «بى. بى. إس» الأمريكية مع الرئيس مبارك.. فقد تمكن المحاور تشارلى روز من طرح الأسئلة الحرجة والمحورية حول مستقبل الحكم فى مصر.. وهو أمر مطروح للنقاش فى كل بيت ومقهى ونادٍ وأى تجمع فى مصر.. إلا أن أحداً لم يتمكن من أن يسأل الرئيس فيه مباشرة مثلماً فعل «روز».. صحيح أن الرئيس مبارك لم يجب بشكل قاطع ومحدد وواضح ونهائى.. إلا أنه على الأقل تكلم عن قضية توريث الحكم فى مصر، ومدى رضاء المؤسسة العسكرية عن هذا الأمر، كما أعلن أنه لم يحدد موقفه الشخصى من الانتخابات الرئاسية القادمة حتى الآن.. وكلها أمور لم يتطرق إليها أحد ممن أتيحت لهم فرصة الحوار مع الرئيس داخل مصر، بل إن حواراً أجراه الكاتب الصحفى أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام مع الرئيس فى واشنطن فى اليوم السابق لحوار محطة «بى. بى. إس» معه، ولكنه لم يتطرق إلى أى من هذه القضايا الملحة والتى تشغل بال غالبية الشعب المصرى باستثناء الموقف من حل مجلس الشعب.. ولا يمكن أن نمر على هذه النقطة دون الإشارة لذلك الانفصام الغريب فى حياتنا السياسية والإعلامية.. فعلى كثرة وضجة الإعلام المصرى خاصاً وحكومياً، تتطرق الحوارات والمقابلات الإعلامية مع الرئيس داخل مصر لقضايا خارجية عادة.. وحينما يحاور الرئيس المصرى نفسه إعلامى أمريكى تكون معظم القضايا المطروحة للحوار داخلية!! وربما لهذا السبب كان أكثر اهتمام المصريين خلال زيارة الرئيس لواشنطن منصباً على هذا الحوار المهم مع المحطة التليفزيونية الأمريكية. نحن فى أمس الحاجة إلى أن نغير نمط العلاقة بين نظام الحكم والشعب.. فالرئيس يجب أن يخاطبنا أولاً بما يهمنا ويشغل بالنا.. والإعلام يجب أن يهتم أولا بما يهمنا ويشغل بالنا.. ومستقبلنا لا يجب أن تتم مناقشته بعيداً عن حدودنا قبل أن نناقشه نحن فى الداخل ويكون لنا رأى فيه.. وحكمنا على الأمور يجب أن يختلف.. فما كان جائزاً ومقبولاً فى الستينيات من القرن الماضى، لم يعد ممكنا ولا مقبولاً فى القرن الحالى.. والذين يصرون على التعامل بنفس منطق الستينيات لا يستوعبون أن تغييراً جذرياً قد حدث فى العالم كله، ويجب أن ندركه، وإلا سنخرج من التاريخ الذى نتشدق به ونصر على لصق كل تصرفاتنا به بمبرر أو بدون مبرر. [email protected]