حصل الدكتور سيد القمنى على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية هذا العام، وقامت حملة تطالب بسحب الجائزة منه، ولم يكن ليدهش أحد أن يعلن البعض عدم أحقية الفائز بالجائزة، فمنح الجائزة أمر اجتهادى يقوم أساسا على قاعدة اختلاف الرأى وإلا لما اعتمد منحها على تصويت من لهم حق التصويت عليها. لكن ما يستوقف النظر ويدعو للتأمل أن الأمر قد تجاوز حدوده وعلا صراخ الغاضبين المحتجين إلى حد أصابنى بعض من رذاذه حين اجتزأت واحدة من الصحف الإلكترونية جانبا من حديث تليفونى شخصى جرى مع صديق، لم يفصح لى أنه يمثل تلك الصحيفة التى نشرت ما اجتزأته كما لو كان ضربة صحفية تناقلتها بعد ذلك عدة منابر صحفية منها مقال للأستاذ بلال فضل الذى أعتز بكتاباته كثيرا فى جريدة «المصرى اليوم» المحترمة. لقد تجاوز الأمر حدود الصواب والخطأ ليصل إلى منطقة رفع الدعاوى القضائية والاستجوابات البرلمانية، وما يستوقف النظر أكثر أن تلك الدعاوى والاحتجاجات والاستجوابات تصدر عن رموز ينتسبون للتيار الإسلامى الذى يشكو من التضييق عليه، والذى كان الأجدر به أن يطالب بتوسيع مساحة الحرية الفكرية، فالحرية لا تتجزأ ولا مجال فيها للكيل بمكيالين. لقد أثارت لدى تلك الحملة الكثير من التساؤلات تتجاوز كثيرا حصول السيد القمنى على الجائزة أو عدم حصوله عليها، فالأمر يتعلق فيما أرى بهوية الدولة المصرية وطبيعة مؤسساتها وحدود التزامات تلك المؤسسات الفكرية، فضلا عن طبيعة مثل تلك الجوائز. إن من يقرر منح «جوائز الدولة» عمليا هم أعضاء المجلس الأعلى للثقافة، ورغم أننى لست عضوا بالمجلس، بل ورغم أننى لم أحصل على الجائزة التى كنت ضمن المرشحين لها، فإننى أعرف أن القرار يتخذ عن طريق التصويت السرى، وأن أحدا من أعضاء المجلس لم يعترض مبدئيا على ترشيح الدكتور السيد القمنى، وجرى التصويت بحضور الجميع، ولم يحصل القمنى بطبيعة الحال على جميع الأصوات بل حصل على الغالبية المطلوبة، أى أن هناك من أيد وهناك من عارض، وأن المؤيدين والمعارضين قد التزموا بشرعية النتيجة المعلنة. هل صحيح أن أموال الدولة المصرية والتى منها أموال الجوائز هى أموال المسلمين وحدهم أم أموال المتدينين منهم دون غيرهم، أم أنها أموال المصريين دافعى الضرائب جميعا - ومنهم القمنى بطبيعة الحال - بصرف النظر عن عقائدهم سواء كانوا من المسلمين السنة أو الشيعة وسواء كانوا مسيحيين أو يهوداً أو بهائيين أو حتى ملحدين، وأيضا بصرف النظر عن حسن أخلاقهم أو فسادها، فالجميع يدفعون الضرائب التى تشكل أموال الدولة المصرية. هل صحيح أن دولة مصر الراهنة دولة «إسلامية»، أم أنها دولة مدنية، وكما يقرر الدستور فإن «نظامنا ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة» وأن «مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع»، والفارق بين الهويتين فارق جلى، فنحن نخضع لقانون مدنى يصدر من سلطة تشريعية مدنية يوصيها الدستور بمراعاة أن تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى لها. رغم عدم تخصصى فى القانون فإننى أعرف أن ثمة مواد فى القانون المصرى تتضمن عقوبات محددة بشأن تهمة «ازدراء الأديان»، وبصرف النظر عن موافقة البعض أو معارضتهم لتلك النصوص القانونية التى تجرم ازدراء «الأديان» بصيغة الجمع دون القصر على الدين الإسلامى، فإن تلك المواد قائمة فى القانون الذى نحتكم إليه جميعا. ترى هل يجوز والأمر كذلك أن نتهم شخصا بأنه «سب الله ورسوله» دون أن يكون فى يدنا حكم قضائى نهائى بإدانته، بحيث لا يكون حديثنا فى هذه الحالة اتهاما بل إقرارا بواقع. وهل يمكن لمثل هذا الاتهام الغليظ أن يلقى اعتمادا على تأويل واستنتاجات واستقراء لنوايا؟ ولم يقل أحد فيما أعلم أن حكما من هذا النوع قد صدر بحق الدكتور القمنى. هل ينبغى فى منح الجوائز العلمية والفنية والأدبية بل وحتى منح الشهادات العلمية أن نضع فى اعتبارنا مدى الالتزام الدينى للمتقدم، ومدى استقامته الخلقية أم أن الأمر ينبغى أن يقتصر على مدى استحقاقه للجائزة أو الشهادة المتقدم لها؟ ترى لو كانت هناك جوائز تمنح للأدباء والعلماء فى عصر ازدهار الحضارة الإسلامية فى العصور الوسطى، وتقدم لها على سبيل المثال أبو بكر الرازى أو ابن سينا أو المعرى أو الجاحظ، فهل كان ثمة شك فى استحقاقهم لها؟ وهل كان حصولهم على الجائزة يعنى الموافقة على آراء الرازى المعلنة فى نقد الأديان والأنبياء؟ أو آراء ابن سينا فى أن العالم قديم أزلى غير مخلوق وأن الله يعرف الكليات لا الجزئيات؟ أو أفكار وأشعار أبى العلاء المعرى المشككة فى الأديان؟ أو آراء الجاحظ فى خلق القرآن؟ إننا حتى اليوم نتيه على الغرب بأن الرازى وابن سينا وغيرهما من العلماء من أبناء الحضارة الإسلامية كانوا مصادر التنوير للغرب فى ظلمات العصور الوسطى. هل تاريخنا كمسلمين تاريخ مقدس؟ هل يوجد قائد أو حاكم معصوم من الخطأ؟ ترى هل من المحرمات أن يقترب أحد من ذلك التاريخ فينقده نقدا حادا أو رقيقا يصيب فيه ويخطئ؟ ألا يدخل ذلك الاجتهاد بصوابه وخطئه فى إطار ما اصطلح على تسميته بعلم التاريخ الاجتماعى؟ هل الإنتاج المرشح لجوائز الدولة يتطلب من صاحبه الحصول على درجة الدكتوراه فى فرع التخصص؟ فيما أعلم أن مثل هذا الشرط لا يوجد إلا بالنسبة للمتقدمين لشغل وظائف فى هيئات التدريس بالجامعة، ولقد حصلت شخصيا على واحدة من تلك الجوائز المتخصصة منذ 37 عاما ولم أكن أحمل آنذاك سوى شهادة الليسانس. ختاما إننى لست بصدد الدفاع عن الدكتور سيد القمنى، ولا تقييم كتاباته، ولا حتى بالدفاع عن المجلس الأعلى للثقافة، ولا تبرير قراراته. ما يعنينى أولا وأخيرا هو التنبيه إلى خطر أراه داهما يستهدف ثوابتنا الوطنية والدينية على حد سواء، فليس أخطر على الوطن من قصر هوية الدولة على فريق من أبنائها مهما كان حجمه، وليس أخطر على الدين من إغلاق باب التفكير والنقد، والإغراق فى التنقيب عن النوايا، وإضفاء القداسة على تاريخ بشرى واعتباره خارج نطاق التناول. [email protected]