هذه الظاهرة الغريبة التى تشمل غالبية الشعب المصرى، وكتب حولها الكثير، واصطلح على تسميتها «عدم انتماء» أنا لا أسميها كذلك! فالشعب المصرى يملك من الانتماء لمصر والإخلاص لها والحب لترابها ما لو وزع على شعوب الأرض جميعاً لتحدثت بانتمائها الركبان!! وهذا ليس كلاماً فى الهواء إنما هو حقيقة ساطعة.. ولكل شىء سبب، ولكل أمر بداية! الشعب المصرى فى عصر ما قبل الثورة كان ساخطاً على نظام الحكم، غاضباً على الملك وحاشيته، وعلى الأحزاب، كارهاً للمستعمر.. ولكنه كان فى أكثر الأحيان يستطيع أن يعلن غضبه وأن يخرج فى مظاهرات تجوب الشوارع، وكان يستطيع أن يحتج ويصدر الصحف، وكان يستطيع أن يحتج ويشكل الأحزاب.. وبهذه الوسائل جميعاً كان فى وسعه أن يسقط الوزارات، ويبعد رجالاً لا يريدهم، ويأتى برجال آخرين.. حتى كان يوليو 52.. وشرع الحكام الجدد يفعلون بالشعب الأفاعيل: التأميم والحراسات، والمصادرة والاستيلاء، والحجر والإبعاد، والكبت.. لا أحزاب.. لا معارضة.. لا برلمان.. لا مظاهرات.. لا صحف.. بل ولا بنت شفة!! ووجد الشعب نفسه فى موقف لم يجد نفسه فيه من قبل، أصبح مجبراً على كل شؤون حياته.. وكأن الوطن سفينة أعلن بعض طاقمها التمرد، واستولوا عليها، ومارسوا فيها أطماعهم ونزواتهم وتجاربهم، وبعثروا أموالها، وطوحوا بإمكانياتها ذات اليمين وذات الشمال، وعرضوها للرياح الهوج.. وكل من سولت له نفسه أن يعترض أو يحتج، كان يقابل بعنف بالغ القسوة.. وآلة القهر دائرة تقول: هل من مزيد!! كان على الشعب المصرى إزاء هذا الهول أن يسلك طريقاً تحتمه التركيبة النفسية الفريدة له، التى شكلتها حضارة آلاف السنين.. لقد رفع المصريون شعار ما نسميه «عدم الانتماء» فى وجه السلطة، واتخذوا من تلك الأفعال اللامبالية وسيلة يعيبون بها وطنهم.. يخرقون سفينتهم المغتصبة.. لا ليغرقوها بل ليجعلوها غير صالحة للعمل، غير صالحة للحكم، فيزهد فيها الحاكم ويدعها لأصحابها!! تماماً مثلما فعل «العبد الصالح» الذى وردت قصته مع النبى موسى فى سورة «الكهف». محمد شبل