وصل الخطاب القبطى إلى مرحلة الخصومة والصراع، فى الخطاب الذى ألقاه أسقف القوصية الأنبا توماس فى معهد هدسن بواشنطن (الولاياتالمتحدة) وجاء فيه: «حين يسمع الناس كلمة «قبطى»، كثيرًا ما لا يفهمون معنى الكلمة، فمن هم الأقباط؟ ولماذا يُدعون هكذا؟ ولهذا شعرت أنه من الأهمية أن أبدأ بشرح أصل الكلمة ولماذا نُدعى «أقباط»، وهذا الشرح قد يخبركم بعض الشىء عن المعضلة التى نواجهها. مصر كانت تدعى دائمًا «إجيبتوس» وكان الجميع يعرفونها بهذا الاسم، وفى القرن السابع حدث تغيير فى الاسم وفى البلاد ذاتها، حين جاء العرب لمصر أو بالأحرى حين قاموا بغزوها، لم يستطيعوا نطق كلمة «إجيبتوس» بسبب الفروق اللغوية فغيروها إلى «جبت» بعد أن اقتطعوا حرف «إ» ومقطع «أوس»، وهكذا أصبحت إجيبتوس «جبت»، واستخدموا «القاف» فأصبحت «قبط»، وكان كل من فى البلد يدعون أقباطا، ولكن بالتدريج، قام بعض الناس لأسباب معينة سواء كانت الضرائب أو الضغوط من أى نوع أو الطموحات والرغبة فى التعامل مع القادة أو الحكام بالتحول للإسلام، هؤلاء الذين تحولوا (للإسلام) لم يعودوا بعد أقباطا، بل أصبحوا شيئا آخر.. والذين ظلوا مسيحيين هم الذين (كانوا) يدعون أقباطا، وهنا سأتوقف وأضع علامة استفهام، ما الذى يجعل شخصًا يغير هوية وطنه بأكمله؟ وأن يحول مركز الهوية من مصر ليصبح العرب، وبالرغم من أن الشعب والأفراد ظلوا كما هم من الناحية العرقية إلا أنهم لم يعودوا أقباطا.. وهذه علامة استفهام كبيرة، وسبب كبير فيما يحدث الآن.. مصر كانت دائمًا بؤرة التركيز للأقباط، فهى هويتنا، وطننا، أرضنا، لغتنا وثقافتنا، ولكن حين تحول بعض المصريين للإسلام، فإن بؤرة الاهتمام والتركيز عندهم تغيرت وبدلا من أن يكون الوطن فى الداخل هو مركز الاهتمام، أصبحت شبه الجزيرة العربية المركز، وبدلا من أن ينظروا إلى حيث هم راحوا ينظرون وجهة أخرى ولن يعودوا يسمون أقباطا وهذه نقلة كبيرة، كما أنها سبب مهم للغاية فيما يحدث الآن.. هل هم حقا أقباط أم أصبحوا فعليًا عربًا؟ ولهذا نترك علامة استفهام كبيرة هنا، فإذا توجهت لشخص قبطى وقلت له إنه عربى فإن هذه تعتبر إساءة، بصورة ما، لأننا لسنا عربًا بل مصريون وسعداء بكوننا مصريين ولن أقبل أن أكون عربيا. لكن الموقف يختلف مع مواطن آخر يحيا فى مصر ولكنه ليس «قبطيا» بنفس المعنى الذى شرحته، فقد أصبح الأمر بالنسبة له مختلفا إذ يعتبر نفسه منتميا لهوية أخرى مركزها فى شبه الجزيرة العربية، لقد تحولت هوية الأمة وأصبح الانتماء للعروبة وللمنطقة التى تتحدث بالعربية، وهذا يعنى أنه إذا لم تكن تنتمى لهذه الهوية أو الجماعة، فأين يقع مكانك فى المجتمع العربى؟ أنت داخله وخارجه، تنتمى ولا تنتمى، وهذه هى المعضلة الكبيرة التى يواجهها الأقباط الذين تمسكوا بديانتهم المسيحية، بل بالأحرى بهويتهم كمصريين، وبثقافتهم، محاولين الاحتفاظ باللغة والموسيقى والتقويم القبطى، مما يعنى أن التراث الثقافى للمصريين القدماء ما زال باقيًا، بينما فى ذات الوقت فإن إخواننا فى الوطن قد تخلوا عنه من أجل ثقافة أخرى، هذا يعنى أن هناك عملية تعريب مستمرة تحدث لهذا الوطن، بدأت منذ قرون، منذ القرن السابع، ومازالت جارية حتى الآن، يمكننا أن نقول أيضا إن هذا جزء من المعضلة، وفى نفس الوقت فإن الأسلمة هى معضلة أخرى بدأت منذ فترة ولا تزال تحمل معها العديد من المشاكل حتى الآن، مما يعنى أن هذه العملية ستظل سارية وهى بالفعل مازالت. مثال بسيط، إذا كنت تريد أن تدرس اللغة القبطية مثل أى لغة أخرى، فهل مسموح لك بتعلمها فى المدرسة؟ من الممكن تعلم الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، أى لغة، لكنك لا تستطيع أن تدرس اللغة القبطية لغة البلد الأصلية فى أى مدرسة عامة بالبلاد، هذا غير مسموح به مع أنه مسموح لنا أن ندرس لغات أخرى فى مدارسنا الحكومية، ولدينا مدارس كثيرة تُعلم الإنجليزية، الفرنسية، والألمانية والإسبانية وغيرها ولكن ليس القبطية.. لماذا ؟ لأن هذا ببساطة يتعارض مع عملية التعريب، هذا اتجاه خطير للغاية، فتراث مصر الثقافى ينتزع منها، وهذا لا يحمل أى جانب دينى ولكنه يعكس واقع ثقافة تموت، لقد شعر الأقباط فجأة بمسؤولية الحفاظ على ثقافتهم والاستمرار فيها والكفاح لأجلها.. نعم، نحن لا نزال نكافح بشدة من أجل الحفاظ على تراث مصر القوى لأننا نحب تراثنا، وهذا يعنى أنه إذا كنا مثلاً نريد تدريس اللغة (القبطية) فى مدرسة حكومية، لن يكون متاحًا، مما يعنى أن الكنيسة هى التى ستحمل مسؤولية احتضان هذا التراث من أجل الحفاظ عليه كأنها تضعه فى «حضانة» جيدة حتى يأتى الوقت الذى يسود فيه الانفتاح والفكر السليم ويعود البلد لجذوره ويعلى من شأنها، لكن حتى يأتى ذلك الوقت فعلينا أن نحتفظ به فى حضانة فى الكنيسة. إذن كلمة «قبطى» هنا ليس لها معنى دينى فقط ولكن ثقافى أيضًا، عملية التعريب مازالت جارية وليس فيما يتعلق باللغة فقط ولكن الجوانب الثقافية مثل التقويم.. العادات.. التقاليد.. أساليب الفنون.. نحن نشعر بأن إخواننا وأخواتنا فى الوطن قد خذلونا بعض الشىء، إذ نرى ثقافتنا وفنوننا تنتزع منا ويطلق عليها أسماء أخرى، كمثال فإن فن أشغال الخشب (الزخارف الخشبية) هو إحدى الحرف المعروفة لدى المصريين، فجأة لم يعد حرفة مصرية بل أصبح «فنا إسلاميًا». لو تكلمنا عن الثقافة فإنه من الممكن أن نقضى عدة ساعات نسرد فيها العديد من الأمثلة، فدعونا الآن نتحدث عن عملية الأسلمة التى هى جارية حتى الآن، معنى الأسلمة لا يقتصر فقط على دفع الناس للتحول للإسلام لكنه أيضاً يشمل أمورا عديدة تأخذ شكل اتجاهات معينة منذ حداثتنا، حيث نسمع دائما أن الإسلام هو الطريق الصحيح للحياة، وحيث يضطر صغارنا وهم أقلية للتعايش مع هذه الحقيقة، وأن ما يسمعونه فى المدرسة والتعليم الذى يتلقونه يختلف كثيراً عما تلقوه فى كنائسهم، تخيل نفسك طفلا صغيرا تذهب للمدرسة حيث تسمع شيئا ثم تعود للمنزل لتسمع شيئا مختلفا، كما أنه عليك حفظ آيات من القرآن التى تُمتحن فيها، فهل علىَّ كطفل صغير أن أدرس القرآن لكى أستطيع اجتياز الامتحانات بنجاح؟ وهذا يعنى أيضًا أنه عليك فى إطار دراستك للتاريخ أن تدرس تاريخ انتصارات القوات الإسلامية الغازية، وإنه عليك كطفل صغير أن تمجد الغزاة العرب الذين جاءوا لبلدك، فكيف يكون شعورك فى هذه الحال؟ وفى ذات الوقت أنت تدرس القليل جداً عن تاريخ الفراعنة، وعن تراثك القبطى، وعن الحياة اليومية للوطن، بينما معظم ما أنت مجبر على دراسته مشبع بهذه الاتجاهات. وسائل الإعلام أيضًا تتبع هذا الأسلوب فى أيامنا هذه، وحيثما كنت فإن التلاوات القرآنية مسموعة، بصوت عالٍ، وليس بإمكانك أن توقفها، وهذا جزء من الضغوط المحيطة بنا. مع تزايد الأصولية وتأثيراتها داخل مصر فإن مصر تجتاز مرحلة صعبة جداً من حيث التكامل أو الوحدة ما بين الأقباط والمسلمين، إن «المسلمين» هم مجموعة واحدة أينما كانوا بينما البلاد الأخرى هى التى تتغير، فهذه هى الطريقة المتبعة فى التسميات، حتى لو كانت غير منطقية، وعلى الأقباط أن يعيشوا بهذه الطريقة، وأن يحتملوا الهجوم على المسيحية الذى يحدث أحياناً من بعض وسائل الإعلام، يوجد لدينا أحيانا عدد من الكُتاب الذين يتجرأون بالتصدى لمثل هذه الأمور، ولكن كتاباتهم لن تنشر فى وسائل الإعلام الحكومية والصحف الرسمية، فليس أمامهم إلا الاتجاه للصحف المسيحية لنشر ما يريدونه ولكن ليس فى نفس المكان (فى الوسائل الإعلامية) التى تنشر هذا الهجوم، نحن نأمل بالطبع فى علاقات أفضل، فلنأخذ بعض الأمثلة من التى قرأتموها هنا ونشرت فى الصحف، عن هجوم بعض المجموعات على دير أبوفانا فى ملوى.. فما الذى حدث؟ تم أخذ سبعة رهبان كرهائن وتعذيبهم، وكما ذكرت بعض وسائل الإعلام المصرية فقد قال بعض هؤلاء الرهبان إن المعتدين حاولوا بشدة أن يجبروهم على البصق على الصليب وعلى التحول للإسلام، وبالطبع لم يفعل الرهبان هذا، لكن المهم هنا هو أن هؤلاء الرهبان قد تكلموا فى حديث لوسائل الإعلام فماذا كان رد الفعل؟ رد الفعل كان انكار الجانب الدينى للحدث وتصوير الموقف على أنه مجرد نزاع على قطعة أرض. دعونى أسرد لكم قصة عن أحد هذه المستويات وقد تم نشرها فى الصحف، وأنا عموماً لا أقول شيئا لم يتم نشره، القصة حدثت فى الفيوم وهى متعلقة بفتاة شابة تحولت للإسلام منذ فترة وتزوجت برجل «مسلم» وعاشت معه فترة ثم هربت من زوجها فجأة لسببٍ ما، فما هو رد الفعل الطبيعى لأناس طبيعيين فى مثل هذه الحالة؟ فى الأحوال الطبيعية كانت هذه الفتاة ستذهب للمحكمة إذا أرادت الطلاق أو ستسعى للحصول على استشارة نفسية أو اجتماعية أو ستعود لأسرتها لطلب مساعدتهم، ولكن لأن هذه الفتاة كانت مسيحية تحولت للإسلام فما إن سرت شائعات بأنها ستعود لقريتها، حدث هجوم فجأة على المسيحيين من أهل هذه القرية، بسبب هذه الشائعة، ودفع المسيحيون هناك الثمن، تم تدمير منازلهم وسرقة محلاتهم. هذه مجرد لمحة لما يحدث.. والآن ما الذى تتوقعه من شخص قبطى يعيش فى هذه الأجواء؟ ماذا تظن أن يكون رد فعله؟ هل عليه أن يحمى نفسه وعائلته؟ هل عليه أن يسعى للانفتاح والاتصال بالآخرين والتحدث عما يتعرض له؟ أقول لكم، نحن لسنا كنيسة ضعيفة، ولا أشخاصا ضعفاء، نحن أقوياء وسنظل صامدين، فالمحبة التى فينا أقوى بكثير من الكراهية. وهذا هو ما أريد أن أقوله، إنه بالرغم من كوننا نواجه الكثير من الصعاب إلا أننا لسنا ضعفاء، ببساطة لأن الحق قوى، المحبة قوية، والرجاء قوى، وهذا ما يجعل المسيحيين باقين فى مصر بالرغم من معدلات الهجرة الكبيرة، إنه أمر مقلق أن أعدادا كبيرة من المسيحيين تترك مصر والشرق الأوسط ككل.. المسيحيون يغادرون هذه المنطقة، وهذه علامة استفهام كبيرة كما أنها أيضًا نداء للمعونة، لمساعدة المسيحيين على البقاء فى أوطانهم. لقد أخذت الكثير من وقتكم، أشكركم جزيلاً وأنا سعيد للغاية بوجودى معكم هنا». ترجمة «منتدى الشرق الأوسط للحريات».