كان العقّادُ العظيم يحبُّ طائرَ البومة، ويضعه، تمثالاً، فى بيته، وهذا الأمريكىُّ إدجار آلان بو يقولُ فى قصيدته الشهيرة "الغراب": "لكنَّ الغرابَ لا يفتأ يُغوى روحىَ الحزينةَ لكى تبتسم"! كيف للبومةِ والغراب، اللذين يتشاءم منهما الناس، أن يكونا مصدرًا للتفاؤل والبهجة والابتسام؟! يمكن هذا بيسرٍ، لو حرّرنا الروحَ والعينَ من إرثهما القديم حول الأشياء. ثم محاولةُ النظر إلى تلك المخلوقات البريئة بشىء من الحياد غير المُثْقَل بالمفاهيم النَّقْلية التقليدية المتوارثة. تكلمنا الأسبوعَ الماضى عن مفهوم الجمال بوصفه حُكمًا نسبيًّا على الأشياء، لا خَصِيصَةً ثابتةً فيها. فلا شىءَ جميلٌ أو قبيحٌ فى ذاته. الجمالُ أو القبحُ هما فكرتنا الخاصة حول الشىء. لهذا السبب يحبُّ بعضُ الناس تربية الفئران والثعابين والزواحف، تلك التى ينفر منها البعضُ الآخرُ من الناس، ويرتعب. مع الستينيات الماضية، بدأ العالَمُ يتمرّد على الثوابت الكلاسيكية للجمال والأناقة. فصار الأثرياءُ يلبسون الجينزَ الأزرق، ملابسَ رعاة البقر وطبقة البروليتاريا من العمّال الكادحين. بل تمادوا فى ذلك ومزقوا بناطيلهم وبهّتوا ألوانَها وتعمّد بعض مصممى الأزياء أن يبرزوا الخياطات التى كانت تتخفى فى الداخل. واحتلّتِ الملابسُ الكتّانيةُ المكرمشة، التى استخدمها الفراعينُ فى تكفين الموتى، قائمةَ أغلى المنتجات وأرقاها فى العالم. وصارتِ النسوةُ حريصاتٍ على إضفاء السمة الرعوية البريّة لشعرهن، بتجعيده على نهج الأفريقيات قاطنات الأحراش. فلم يعد الشعرُ المنسدلُ الناعم حُلمَ الفتيات كما كان دومًا فى القديم. حتى فى العمارة؛ بدأ المعماريون يصممون مبانىَ تبدو مائلةً أو مهشّمة، أو يبرزون الأحجارَ والكمراتِ الخرسانيةَ والأعمدةَ التى كانت دائمًا تتخفى وراء دهانات الملاط الملونة فى التصميمات القديمة. كذلك فى الأدب، لم يعد الشعراءُ والروائيون مشغولين بالكتابة عن النجم اللامع والقمر المضىء والشمس الوهاجة والسماء الصافية والوردة اليانعة، فكلها تيمات استهلكها الشعراءُ وقتلوها استلهامًا، بل راحوا يكتبون عن «الأرض الخراب»، والأحراش والعشش الصفيح والجوعى والصرعى والمجزومين والعميان، لأن بكل ما سبق جمالاً من نوع فريد ونادر غاب عن السَّلف القديم إدراكُه. لم يعد بطلَ الحكى هو القائدُ هكتور والفارسُ أخيل والمقاتلُ المشّاء الأعظمُ أوديسيوس، ولم يعد أيقونةَ المادة الإبداعية صلاحُ الدين، بل أبسطُ جندىّ مجهول يقف فى الجبهة يذودُ عن الوطن بصدره العارى من الأوسمة، حتى إذا ما شقَّت هذا الصدرَ رصاصةُ العدو، دُفن دون اسم فى نُصُبٍ تذكارىّ يحمل أجساد أولئك الجنود المجهولين الذين جادوا بأعمارهم دونما مجدٍ سيحصّله القادةُ والزعماءُ الذين يديرون المعارك من غرفهم المحصّنة. ومثلما حلَّ الجندىُّ محلَّ الفارس، حلّتِ الخادمةُ والعاملةُ وبائعةُ الخضر والجواربِ محلَّ النبيلة والأميرة المُترفة، وحلّت عبيطةُ القرية برثِّ ثيابها محلَّ سيدة الصالون الأنيقة التى تجلس فى بهو قصرها إلى البيانو تعزف مقطوعةً لشوبان. حلَّ المعطوبُ محلَّ الغَّضِّ، والناقصُ محلَّ المكتمل، لأن الفنانين والفلاسفة والأدباء أدركوا أنَّ فى العطبِ جمالاً، وفى النقص اكتمالاً. حلَّ الذى "غبارٌ عليه"، محل الذى "لا غبارَ عليه"، لأن الناسَ سئموا من معايير الجمال التقليدية الخاملة، التى استهلكها الشعراءُ فى مدوناتهم القديمة، فحاول المجددون الكشفَ عن مناطقَ خبيئة متوارية من الجمال البرّىّ النافر، الذى يشذُّ عن المفاهيم الراسخة القديمة ل"مازورة" الجمال القديم. [email protected]