منذ 57 عاماً غادر الملك فاروق مصر للأبد، غادر آخر سلالة أسرة محمد على الملكية المحروسة ولم يعد إليها حياً مرة أخرى . كان العصر، عصر الثورات وحركات التحرر، كانت الشعوب فى حالة نهضة حقيقية، نهضة غيرت خريطة العالم. من ينظر إلى خريطة العالم فى بداية القرن العشرين ويقارنها بخريطة نهاية القرن العشرين، يدرك الفرق الكبير. لقد تغيرت الحدود كما تغير الحكام، لم تعد هناك الأسر الحاكمة التى استمرت قروناً طويلة تحكم إمبراطوريات لقرون من الزمان. اختفت من خريطة الزمان والمكان أسر مثل أسرة آل رومانوف التى استمرت تحكم روسيا حوالى 250 عاماً بعدما أسسها الجد الأكبر ميخائيل رومانوف، أزيلت سلالة الأسرة على يد الثوار البلاشفة الذين أعدموا القيصر وأسرته. انهارت أيضاً الإمبراطورية العثمانية التى حكمت منذ 1288 وحتى 1922، تلك الإمبراطورية الأسطورية التى كانت فى عصرها الذهبى تضم أجزاء من إمبراطوريات عريقة هى الإمبراطوريات المصرية والآشورية والبابلية والفارسية والمقدونية والرومانية والبيزنطية وهو ما لم يتحقق لأى إمبراطورية أو دولة قبل الإمبراطورية العثمانية، التى جاء أسلاف حكامها من وسط آسيا وامتدت حدودها داخل ثلاث قارات هى آسيا وأوروبا وأفريقيا من نهر الدانوب شمالاً إلى المحيط الهندى جنوباً ومن القوقاز شرقاً إلى شمال غرب أفريقيا غرباً. لقد كان القرن العشرون قرن الثورات، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تنتهى حتى بدأ انهيار وتقويض الإمبراطوريات التقليدية فى أوروبا، فانهارت إمبراطورية آل هوهنزولرن التى حكمت ألمانيا حوالى 250 عاماً والتى كان منها الإمبراطور غليوم حاكم ألمانيا إبان الحرب العالمية الأولى، كذلك اختفت إمبراطورية آل هابسبرج العريقة التى حكمت النمسا قروناً طويلة والتى كانت أطرافها تمتد إلى كل وسط أوروبا مسيطرة على حوالى 50 مليون نسمة بينما كان عدد سكان النمسا وقتها لا يزيد على بضعة ملايين قليلة من السكان. قامت الثورات وحركات التحرر فى كل مكان، فى الصين، فى الهند، أكبر دولتين فى العالم، وفى دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وفى دولنا العربية، وكان من الطبيعى والمتوقع أن تقوم الثورة فى مصر، كل الظروف التى سبقت الثورة كانت تمهد لها، مظاهر الحكم الفاسد، انتشار الانحراف الأخلاقى والحكومى على مستوى كبير، تدنى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية بشكل لا يحتمل، تدنى مستوى تسليح الجيش، خاصة بعد نكبة فلسطين 1948 وما كشفته من عوار داخل الجيش وقضية الأسلحة الفاسدة وغيرها. كان الشعب فى واد والملك والحاشية والأمراء والباشوات فى واد آخر، لا يستطيع أحد أن يدعى عكس ذلك، ولم تكن هذه الأسباب الوحيدة التى قامت من أجلها الثورة، بل كانت شرعية الحكم نفسه قد انتهت بعجزه عن إنهاء الاحتلال الإنجليزى الذى جثم على أرض مصر 74 عاماً. لم يكن الملك ولا من حوله قادرين على إنهاء الاحتلال الذى يدنس وطننا، فقام مجموعة من شباب مصر الوطنيين النزهاء بالثورة لإنهاء الاحتلال وإنهاء حكم أسرة محمد على الغريبة عن مصر بغض النظر عما فعله محمد على أثناء حكمه مصر، فلو أنه كان يحكم دولة أخرى ربما لم يكن ليستطيع أن يفعل ما فعله فى دولة صانعة للحضارة منذ فجر التاريخ، بل إن تولى محمد على نفسه كان جزءاً من استمرار حكم الغرباء، فجاءت الثورة وتولى لأول مرة فى التاريخ منذ العصور الوسطى والتاريخ الحديث والمعاصر حاكم مصرى. هل كانت الثورة ضرورية؟ نعم كانت ضرورية بل حتمية، فلم يكن من الممكن فى زمننا المعاصر أن يستمر نظام حكم متهالك مثل حكم الملك فاروق الذى لم يكن اهتمامه وأسرته من الأمراء والنبلاء إلا لمصالحهم، ولا يجب أن ينبرى أحد ويصيح بأنهم تبرعوا بمال، أو أنشأوا مرفقاً، للتدليل على مدى كرمهم، فكلها أموال مصرية من الخزائن والخيرات المصرية ولولا وجودهم فى مصر وحكمهم مصر لما كانوا يملكون كل ما كانوا يملكونه، فهم لم يأتوا مع جدهم من ألبانيا محملين بالذهب والفضة، وجاءوا لكى يتبرعوا لشعب مصر. من السذاجة أن ينساق البعض بوعى أو بغير وعى وراء أحداث مسلسل ممول من السعودية يحسن صورة الأسرة المالكة المصرية، فالتزييف التاريخى والإعلامى يجب ألا ينسينا ما كان، ومع ذلك، ما هو المطلوب الآن؟ هل مطلوب أن تعود الملكية وأن نلغى الجمهورية ؟ هل هذا هو المطلوب؟ هل يسعد البعض أن يكون هناك ملك جيد وأميرة جديدة تدعى أن الثوار كانوا يريدون قتل أسرتها؟ هل كان الثوار عاجزين عن قتل الملك قبل أن يخرج يوم 26 يوليو؟!! إن من حسنات ثورة يوليو أنها ثورة بيضاء تتناسب مع طبيعة الشعب المصرى وطيبته، لكن هذا الشعب لن يتسامح فى حقوقه ولن يستمع لمن يمصمصون شفاهم حنينا إلى ملكية لن تعود أبداً.